فرنسا... مشكلة اجتماعية لا إسلامية

TT

هل يمكن اعتبار ما شهدته ضواحي المدن الفرنسية الرئيسية من اعمال عنف وشغب ظاهرة عربية ـ اسلامية أم ظاهرة فرنسية تعكس ـ وان بانفعالية شارعية غير مسؤولة ـ معاناة الاقليات الاثنية كلها من اوضاعها بصرف النظر عن انتماءاتها الدينية؟

لان فرنسا هي الوطن الثاني لنحو5 الى 6 ملايين عربي ومسلم، ولان مسلمي فرنسا يشكلون نحو 10 في المائة من سكان البلاد، كانت الطابع الاسلامي ـ العربي الهوية الطاغية على خلفية «انتفاضة الضواحي»، رغم غياب التجييش الاصولي عنها ومشاركة العديد من غير المسلمين فيها، خصوصا من اوساط الشبان العاطلين عن العمل. في انتفاضة الضواحي، الدين لم يكن المشكلة بقدر ما كان الوضع الاجتماعي الدافع الاول لتفجير نقمة ابناء الضواحي. بمنظور اجتماعي واقعي قد لا تدل اعمال الشغب عن فشل الحكومة الفرنسية في معالجة شكوى الجاليات العربية والاسلامية من أوضاعها المعيشية والاقتصادية بقدر ما تدل على نجاحها في «فرنسة» ذهنية الاقليات فيها... فالاحتجاج الصاخب وما يرافقه من اعمال عنف ظاهرة اساسية من ظواهر النسيج الاجتماعي الفرنسي. وقد ينفع التذكير بأن الثورة الفرنسية الكبرى، عام 1789، بدأت بمظاهرة احتجاج على الاوضاع المعيشية قبل ان تنتهي بإطاحة النظام بأكمله.

ولكن إذا كانت فرنسا نجحت في «فرنسة» أقلياتها فما فشلت فيه هو إزالة دواعي شكواها المعيشية المرتبطة بشكل وثيق بالعزلة الاقتصادية التي يعيشها ابناء الاقليات في ضواحي المدن الكبرى والتي حولت احياءهم الى ما يشبه «الغيتو» الاقتصادي: معدل البطالة في الضواحي يبلغ ضعف المعدل العام في فرنسا (نحو 40 في المائة)، والعزلة الاجتماعية بين سكانها وأبناء المدن تتسع باطراد في ظل ظروف سكن بائسة ومدارس ثانوية دون المستوى ووسائل نقل عام غير متكافئة مع مثيلاتها داخل المدن.

وكل ذلك يجري برعاية قانون عمل مثقل بالقيود مثل نظام الـ 35 ساعة في الاسبوع وحد ادنى للاجور ـ عال نسبيا ـ وشروط توظيف وتسريح من العمل متشددة، مما يسمح للمواطن الفرنسي المنتمي الى النخبة الادارية في البلاد او المقرب منها التمتع بضمانات يحرم منها الدخيلون من الاقليات الاثنية على سوق العمل الامر الذي يحرم ابناء هذه الاقليات من فرص التحرك الاجتماعي المتاح للآخرين. في هذا السياق ربما كانت فرنسا تدفع ضريبة تخلف نموها عن معدلات نمو الاقتصادين البريطاني والاميركي خلال العقد المنصرم، والذي أتاح لسوقي العمل الاميركية والفرنسية توفير المزيد من فرص العمل وبالتالي تجنب التداعيات الاجتماعية للبطالة المرتفعة على اقلياتها الاثنية.

انطلاقا من هذه الخلفية، قد تكون أولى أولويات الحكومة الفرنسية الحيلولة دون تحول التنوع الاثني في فرنسا الى طبقية جديدة في بلد «المساواة والإخاء والحرية»، فتبدأ بتخفيف قيود قانون العمل وباتاحة الفرص لانتساب ابناء الاقليات الاثنية الى الشرطة، وقبل هذا وذاك، تشجيع الجيل الثاني من ابناء الاقليات على خوض غمار العمل السياسي داخل النسيج الحزبي، وذلك على قدم المساواة مع الفرنسيين الآخرين فلم يعد جائزا الا يضم البرلمان الفرنسي نائبا واحدا «ملونا» ممثلا لدائرة انتخابية في الداخل الفرنسي، (وليس في دوائر الاراضي الفرنسية «عبر البحار» فحسب)، كما لم يعد جائزا ان تخلو شاشات التلفزيون الفرنسي من الوجوه «الملونة» (إلا في ما ندر).

إذا كان ثمة عبرة ايجابية من تظاهرات الضواحي العنفية، فقد تكون في إثباتها ان ابناء الاقليات الاثنية أصبحوا فرنسيين بامتياز «سياسيا»... فهل تكمل حكومة باريس «فرنستهم» اجتماعيا واقتصاديا؟