فهلوة المنسي.. ونسيان الكبار

TT

واحدة من مشكلات العرب اليوم هي اعتماد الفهلوة بديلا عن التحضير والعمل الجاد، خصوصا فيما يتعلق بقضايا مصيرية كثيرة، فهلوة الصوت العالي لا تحل أي قضية وإنما تعقدها، ولننظر إلى حديث فاروق الشرع أمام مجلس الأمن الدولي، ومقارنته علاقة سورية بلبنان بعلاقة الحكومات الأميركية والأسبانية والإنجليزية فيما يخص الأحداث الإرهابية في تلك البلدان. هذه المقارنة قد تجد آذانا صاغية في عالمنا العربي وتبدو مقنعة هناك، ولكن الناظر إلى رد جاك سترو، وردة فعل الحاضرين يدرك أن فاروق الشرع قد كسب الجولة في شوارع دمشق وخسرها في مجلس الأمن الدولي الذي يناط به مصير سورية الآن.

الشخصية الفهلوية التي تجلب الخسائر لقضيتها، قدم لها أستاذنا الروائي العظيم الطيب صالح في كتابه المعروف بـ «المنسي». في هذا الكتاب قدم لنا الطيب صالح شخصية «المنسي»، وهو رجل من صعيد مصر مارس الفهلوة طيلة حياته في بريطانيا، خذ على ذلك مثلا عندما ذهب المنسي برفقة الطيب صالح وآخرين للاستماع إلى محاضرة المؤرخ الإنجليزي الكبير أرنولد توينبي في جامعة اكسفورد عن تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، وكان المنسي بين الحضور لكنه كان يغط في النوم ولم يسمع من محاضرة توينبي شيئا، ولما جاء وقت السؤال والجواب، وقف المنسي معنفا ذلك المحاضر العظيم متهما إياه بالصهيونية_، رغم أن المحاضرة كانت متعاطفة مع العرب، وداعية كلا من العرب واليهود للخروج من تلك الحلقة الجهنمية من العنف، وسرد أسبابا عدة منها استغرابه من اضطهاد اليهود الإسرائيليين للفلسطينيين وهم الذين عانوا الاضطهاد في أوروبا، فكيف للضحية أن تجلد ضحية أخرى، لكن المنسي فاجأ البروفسور توينبي بأن اتهمه بالانحياز لليهود، ولم يصدق الحاضرون ما قاله المنسي لأنه عكس ما قاله المحاضر، ومع ذلك هب المنسي قائلا للأستاذ: إن فلسطين عربية منذ ثلاثة آلاف عام، ولما شده الطيب حتى يجلس ولا يفضح نفسه، قال للطيب: «أمال كام؟»، فقال له ربما سبعة آلاف عام أو أكثر، فرد المنسي «وهي الثلاثة تلاف سنة دي شوية يا راجل!».

المنسي كان جاهلا، ولكنه كان جسورا وخفيف الظل، وقد دخل على مجلس الملكة إليزابيث كرئيس للوفد المصري، وكانت العادة أن يسلم عليها السفراء ويرحلون بسرعة، لكنه أمسك بيدها وبدأ بالثرثرة، سائلا اياها في أي مدرسة تعلم ابنها تشارلز، وان كانت لا تمل من هذه المراسم الاحتفالية التي تمارسها طيلة الوقت..

هذه الجرأة في شخصية المنسي مدفوعة بالجهل، لأن العلم في معظم الأحيان لجام لصاحبه، يحدد له أصول اللباقة ويمنعه من التمادي. مغامرة أخرى للمنسي في كتاب الطيب صالح مع أستاذ أكسفورد السابق ريتشارد كروسمان ذلك الرجل الذي أصبح وزيرا في حكومة العمال فيما بعد، وكان من المقربين من رئيس الوزراء ويسلون وأصبح رئيس تحرير مجلة النيوستيتمان، أي أنه مثقف حقيقي وصهيوني عن علم، ولما ذهب المنسي إلى مناظرة كروسمان، وكان كروسمان رجلا طويل القامة شديد الاحترام، والمنسي قصير القامة وغير ملتزم، وقف المنسي وقال لكروسمان «هو أنت يهودي ولا إيه؟!».. انقلبت المعايير ولم يعد للتأصيل الفكري للأمور موقع، تحول الموضوع إلى تهريج، وهوم المفكر في المناظرة ضد منسي الفهلوي.

العالم العربي اليوم مليء بالمنسي وبالفهلوة، وبنهاية المعايير الموضوعية، المهم في هذا العالم هو العلاقات الاجتماعية والفهلوة.

مناسبة هذا الحديث، هو أن أستاذنا الطيب صالح حدثني بعد يوم العيد وفي صوته مرارة، وقال لي بأنه كان يكتب في إحدى المجلات العربية لفترة بعدها أوقفت تلك المجلة كتاباته دونما إشعار.

«كنت أتمنى أن يقال لي على الأقل شكرا على ما قدمت».

رجل بقامة الطيب صالح الثقافية والفكرية نادر الحدوث في عالمنا العربي، فهو رجل متمكن من ثقافتين، يحادثك عن الإنجليز وكأنه منهم، ويحادثك عن التراث العربي وعن المتنبي وكأنه عاش عصره، أبدع في كل رواياته تقريبا من عرس الزين إلى دومة ود حامد إلى تلك الرواية التي سمع بها الكثيرون ولم يقرأوها، وهي رواية «موسم الهجرة إلى الشمال»، تلك الرواية العالمية التي تدرس في كبريات جامعات الغرب. وقد حدثني الطيب ذات مرة عن موقف جرى معه في مطار القاهرة، عندما ادعى مسؤول الأمن أنه يعرفه قائلا بصوت جهوري في صالة المطار «أهلا بصالح الطيب، صاحب رواية الطيور المهاجرة»، الضابط لم يقلب اسم الطيب فحسب وإنما أضاف للرواية طيورا. وماذا بيد الطيب، فلا حول ولا قوة له في مواجهة ضابط المطار الآمر الناهي في مكانه، فلا يستطيع أن يصحح له اسمه أو حتى عنوان روايته، القوة والسلطة والفهلوة هي الحاكم والحكم في الأمر.

عالمنا العربي مليء بتلك المخازن الثقافية على غرار الطيب صالح، ولكن في عالم تغيب المعايير فيه طفت على السطح أسماء لا علاقة لها بالثقافة، وأنا هنا لست من الذين يبكون على القديم كمن يقول بأن أغنية أم كلثوم أو فيروز أفضل من الأغنية الحديثة، رغم أنني أرى ذلك، فأنا أفضل المنافسة بين القديم والجديد شريطة أن نتيجة هذه المنافسة تكون مبنية على المعايير الواضحة فلا يكتب في صفحات الثقافة والأدب من هو أقل من الطيب صالح. والشباب الذي نريده بعد جيل الطيب صالح هو ذلك الذي قرأ الطيب صالح ويعرف أكثر من الطيب ويرى أبعد منه، ذلك لأن الطيب هو ذلك الذي يعرفه، أبعد منه ببساطة لأنه واقف على كتفيه، وما الطيب بمتفرد في هذا المقام، فهناك كثيرون من الأساتذة في العالم العربي وقامات ثقافية توارت لأن الساحة الآن تكاد تكون مملوكة لأصحاب الفهلوة.

وفي هذا السياق، أذكر مجموعة من الأسماء الهامة التي لا يعرف عنها الجيل الجديد الكثير والتي انزوت وربما غابت عن الأنظار. وبالانزواء لا أعني الاختفاء التام، فلبعضهم عمود هنا أو مقال هناك ولكن هذه الأعمدة أو المقالات أو المقابلات لا تعكس غنى أو تعدد أبعاد تلك القامات الثقافية في عالمنا. فهناك في مصر مثلا أسماء هامة أعرفها قراءة رغم أنني لم أقابل أيا منهم، مثل جابر عصفور ورجاء النقاش، وأحمد عبد المعطي حجازي، وحسين أحمد أمين، وآخرين. أعرف أن بعضا منهم له مساحات للكتابة في مصر ولكن لماذا لا نرى هذه الأقلام في كل الصحف والمجلات العربية؟ هناك أيضا أسماء أخرى من بلاد الشام مثل سعد الله ونوس، وحنا مينا، وزكريا تامر، ومحمد الماغوط،، وعبد السلام العجيلي وآخرين لا تعلمونهم ولكن الله يعلمهم. مهم هنا أن نعرف أن عبد السلام العجيلي ذلك الرجل التسعيني ما زال يعيش في قريته المعروفة بالرقة، هذا أمر مساو لمعيشتي في قريتي في صعيد مصر، وأعترف أنني لو عشت هناك لما تعلمت الكثير وما كتبت ما يرقى إلى مستوى العجيلي، وهناك حالة حنا مينا ذلك الرجل الذي بدأ حياته عاملا وبحارا ووصل إلى ما وصل وكتب عن ذلك في روايته المعروفة بالسفينة.

هناك أيضا تلك الكاتبة المتميزة والمعروف عنها توليد علاقات لغوية جديدة وهي السيدة غادة السمان، أما المغرب ففيه محمود المسعدي في موريتانيا، وفيه عبد الله العروي والجابري، وهناك كتاب وشعراء وأساتذة من أطراف العالم العربي، كذلك اللبناني الجنوبي شوقي بزيغ، وهناك في السعودية شاعرات وشعراء متميزون مثل غازي القصيبي وأشجان الهندي وآخرين يملأون المملكة، ولكن العلاقات العامة تغطي على وجودهم.

لقد آن الأوان لعالم الفهلوة أن ينتهي من عالمنا العربي وننتبه إلى القامات الحقيقية. الكتاب العرب المبدعون هم جماعة متفرقة لا يمثلون »لوبي« أو حركة ولكنهم منسيون، أما المنسي الفهلوي الذي كتب عنه الطيب فهو المسيطر على الساحة. واقعنا العربي نسي الطيب واحتضن المنسي وأصحاب الفهلوة، فهل من عودة إلى معايير صارمة تفرز لنا الغث من السمين في ثقافتنا العربية، حتى نتسلح بالعلم لا بالفهلوة لحل قضايانا المصيرية والتي أظن أنها قضايا وجود في المقام الأول؟.