تغييرات الأردن: لا هي انقلاب أبيض.. ولا تصفية حسابات

TT

التقديرات التي سادت لدى معظم المراقبين، وبخاصة الذين يتابعون من الخارج، هي ان التغييرات الأخيرة في الاردن، والتي شملت الديوان الملكي ومجلس الامة ومعظم مراكز صنع القرار الاساسية، قد جاءت في هيئة انقلاب أبيض أطاح مجموعة سابقة وأحل محلها مجموعة جديدة بخط جديد وبمفاهيم غير مفاهيم الطاقم الذي جرت تنحيته عن مواقع المسؤولية.

والحقيقة أنه غير مستغرب ان يصل الى هذا الاستنتاج أولئك الذين لا يعرفون الاردن من الداخل والذين لا يدركون ان هناك فروقاً كبيرة بين إدارة الحكم في هذا البلد وإدارة الحكم في دول عربية أخرى عاشت تجربة الانقلابات العسكرية البيضاء والدامية، ولم تتمتع بالاستقرار الذي تمتعت به المملكة الاردنية الهاشمية رغم انها ومنذ إنشائها كدولة بقيت تعيش في منتصف بؤرة التوتر في هذه المنطقة المتوترة والملتهبة.

وبداية فإنه لا بد من الإشارة الى مسألة معروفة جداً لدى المراقبين من الداخل والمراقبين من الخارج وهي ان تاريخ الاردن لم يعرف تعدد مراكز القوى في أي يوم من الايام إلا مرتين هما، المرة الأولى في العام 1957 عندما انتقلت عدوى المنطقة الى هذا البلد، واستطاعت المعارضة القومية واليسارية بإسناد من مصر الناصرية ان تصل الى الحكم وتدفع سليمان النابلسي ليصبح رئيساً للوزراء. والثانية في نهايات عقد ستينات وبداية سبعينات القرن الماضي عندما تحولت المقاومة الفلسطينية الى دولة داخل الدولة الاردنية.

باستثناء هاتين التجربتين القصيرتي العمر فإن الأردن بقي يـُحكم بطريقة مؤسساتية حيث الاحتكام للدستور واعتباره المرجع الأول وحيث الحدود واضحة بين صلاحيات الملك الذي هو رأس الدولة وصلاحيات رئيس الوزراء وصلاحيات الهيئة التشريعية بجناحيها، مجلس الاعيان ومجلس النواب (البرلمان).

لقد جرى إبراز دور المجموعة الاقتصادية، التي تتكون من عدد من الشبان المتخرجين من الجامعات الغربية والذين عُرفوا بأنهم الفريق «التكنوقراطي»، خلال الاعوام الاربعة الماضية وذلك الى حدِّ ان الانطباع الذي ساد خلال هذه الأعوام هو ان هذه المجموعة غدت الآمرة الناهية وان القرار بالنسبة لكل شؤون الدولة غدا قرارها وان حرساً جديداً قد حل محل «الحرس القديم»!! ومحل رجالات النظام الذين خاضوا كل معارك الدفاع عن وجود الدولة الاردنية.

وهنا فإنه لا بد من الإشارة الى ان دور هؤلاء الشبان المتحمسين الذين عادوا من الغرب بعد ان تخرجوا في الجامعات الأميركية والأوروبية قد تضخم كثيراً في بعض الاحيان حتى طغى على دور رئيس الوزراء والحكومة الاردنية. ولعل ما شكل خطراً على طبيعة الحكم وأساليبه، ان بعض هؤلاء الشبان قد أخذتهم العزة بالإثم وأنهم أخذوا يسعون لتحويل الدولة الى شركة مساهمة كبيرة.

لقد حاول هؤلاء الشبان نتيجة قلة الخبرة وعدم معرفة حقيقة المجتمع الأردني الذي لا يزال، ورغم تطورات العقود الاربعة الأخيرة، مجتمعاً رعوياً وزراعياً وقبائلياً الى مجتمع غربي فحاولوا فرز الاردنيين وتقسيمهم الى فئتين فئة محافظة لا تزال تنغرس في الماضي وقيمه وفئة ليبرالية هدفها استبدال القيم والعادات الشرقية بقيم جديدة قريبة الشبه من عادات الغرب وقيمه.

وهذا كاد ان يؤدي الى حالة كالحالة التي مرَّت بها إيران في بدايات عقد ستينات القرن عندما حاول عدد من المتأثرين بالغرب والذين تخرجوا في جامعاته تحويل هذا البلد الشرقي ـ المسلم الى جزء من الغرب الأوروبي الأمر الذي جعل الشعب الإيراني يعتبر عملية الاصلاح هذه التي قادها الشاه السابق مفروضة من قبل الولايات المتحدة فناصبها العداء ووقف ضدها لنحو عقدين من الزمن وكانت النتيجة ان انتصرت الاصولية والمحافظة على الإصلاح والتحديث.

ربما، بل المؤكد، ان الاردن لم يصل الى ما وصلت إليه إيران من تصادم بين تيارين ازداد التباعد بينهما، الى ان تغلب طرف على الطرف الآخر وحسم انتصار الثورة الخمينية على نظام الشاه السابق الأمور بصورة نهائية، وتكرس النفوذ في هذه الدولة التي تحتل مكانة رئيسية في هذه المنطقة، لرجال الدين ولآيات الله المعممين وللسلفية على الاصلاح و«الليبرالية» والديموقراطية على النمط الغربي.

كان من الممكن ان تتسع الهوة في الاردن ويبرز تياران متناحران لو ان العاهل الاردني عبد الله الثاني لم يتدخل في اللحظة المناسبة والحرجة ويعيد وقوف هذا البلد على قدميه بدل ان كاد يقف على رأسه ويعلن ان الدستور خط أحمر غير مسموح المس به وبخاصة ان المنطقة غدت تغلي بالأحداث الخطيرة المرتقبة وان المملكة الاردنية الهاشمية باتت محاصرة بالأزمات والعنف من كل جانب وكافة الاتجاهات.

لقد جرى التركيز خلال السنوات الاربع الماضية على الاقتصاد، وأعطيت الأولوية له فتراجعت الاهتمامات السياسية، مقارنة بسنوات ماضية، وأصبح الشبان «التغريبيون» في الواجهة وتحت الاضواء المكثفة، لكن وقد تطورت أزمات المنطقة وأصبحت بهذه الخطورة وأحاطت بالأردن من كل جانب فقد بادر الملك عبد الله الثاني الى إعادة ترتيب صفوف الأردنيين، وبدون ان يشعر فريق بأنه المنتصر ويشعر فريق آخر بأنه انهزم وخسر مواقعه السابقة.

لقد تحققت بعض الإنجازات الاقتصادية خلال السنوات الأربع الماضية وقد ارتفع معدل النمو حتى تجاوز الخمس نقاط وذلك رغم ان الأردن عاش ولا يزال يعيش مع المنطقة كلها ظروفاً استثنائية، ازدادت تعقيداً بعد احتلال العراق وبعدما وصلت عملية السلام في الشرق الاوسط الى جدار مسدود.

لكن وبعد أن ازداد التهاب المنطقة وغدت الأزمات تطوق الاردن من كل اتجاه وبخاصة بعد ان دخلت سوريا دائرة التوتر الشديد وبعد ان بدأت حتى إسرائيل تندفع نحو الانهيار السياسي كان لا بد من وقفة مراجعة ولا بد من إعادة تنظيم الصفوف وبسرعة وبدون إبطاء لمواجهة أي طارئ ولسد النوافذ التي قد تهب منها الرياح الباردة على المملكة الاردنية الهاشمية التي يعتبر صمودها في هذا الموقع الجغرافي الخطر أحد المستحيلات وأعجوبة من الأعاجيب.

وهنا فإنه لا بد من التأكيد على ان إعطاء الأولوية للشؤون السياسية في هذه المرحلة الحاسمة لا يعني وعلى الإطلاق ان الاهتمام بالاقتصاد وبالتنمية والاستثمار قد تراجع. فالأردن يعتبر بلداً فقيراً بالمصادر الطبيعية وإنْ هو غني بكفاءات ومؤهلات أبنائه. ولهذا فإن الأردنيين يعرفون ان الصمود السياسي يحتاج دائماً وأبداً الى متانة اقتصادية والى زج طاقات الجميع في معركة مصيرية ستترتب عليها نتائج كثيرة.

إن التغييرات الأردنية الأخيرة جاءت في إطار إعادة تنظيم الصفوف، لمواجهة مرحلة خطرة ستكون استحقاقاتها كثيرة. وهي بالتأكيد ليست انقلابا أبيض ولا حركة إقصائية قام بها مركز قوى ضد مركز قوى آخر ، فهذه الأمور لا يعرفها الأردن الذي هو دولة مؤسسات رأسمالها الاستقرار والوسطية.