بعد 48 ساعة من انتخابها : هل تحكم ميركل ألمانيا كبطة عرجاء؟

TT

انتخب البرلمان الألماني أول من أمس انجيلا ميركل مستشارا جديدا لألمانيا، ويمكن لهذا الاختيار أن يؤشر الى حدث حاسم. فميركل هي اول امرأة تحتل موقع المستشارية في تاريخ ألمانيا، وهي أول زعيمة للبلاد قضت معظم حياتها في ظل الحكم الشيوعي، وأول رئيسة لتحالف بين الحزبين الألمانيين الرئيسيين منذ عام 1969. وهي تتولى السلطة في بلد ظل، فعليا، بدون حكومة منذ مايو الماضي، حين أعلن المستشار السابق غيرهارد شرويدر عزمه على اجراء انتخابات جديدة.

وتصبح أنجيلا ميركل مستشارة في مرحلة أزمة بالنسبة لبلادها التي تقف بين الاصلاح الداخلي والركود الاقتصادي والمأزق الاجتماعي، بين نقطة الجمود والإبداع الجديد بشأن التكامل الأوروبي، وبين التقاليد والحاجة الى نماذج جديدة في التحالف الأطلسي.

وعندما رأيت اول مرة نتائج الانتخابات المتقاربة وهيكل التحالف الكبير ، كنت أخشى من المأزق. فكيف يمكن لمستشار يتمتع بنتائج انتخابية محبطة ان يروض تحالف أحزاب معارضة تاريخيا لبعضها البعض بشدة، وكانت قد انقسمت انقساما حادا بشأن كل القضايا تقريبا في الانتخابات الأخيرة ؟ وكيف يمكن لشخص أن يقود حكومة يجري فيها تقاسم متماثل للمناصب بين أحزاب متخاصمة حتى الآن ؟ وبدت هذه المشكلة حادة جدا لأن عددا من الطامحين المحبطين نحو المناصب الأعلى كانوا في حزب ميركل وقد يفتقرون بالتالي الى حافز نحو علاقة زمالة حقيقية. وكانت قضايا السياسة الخارجية، خصوصا النزاعات مع الولايات المتحدة، مؤثرة الى حد كبير في الرأي العام الألماني بحيث ان تعديلات مهمة قد لا تكون عملية، خصوصا أن وزير الخارجية الجديد هو أحد اقرب المساعدين للمستشار السابق.

وربما يحدث كل هذا على اية حال. ولكن هناك أيضا أفقا بديلا أميل اليه على نحو متزايد. فحزبا التحالف يعرفان أنهما اذا ما خيَّبا أمل بعضهما بعضا فان التحالف سينهار وسيواجه كل واحد منهما المآزق التي ارغمتهما على تشكيل تحالف في المقام الأول. وعندما حاول شرويدر القيام بإصلاحات هامشية فان ذلك هدد بشق الحزب الديمقراطي الاجتماعي. وعندما طرحت ميركل بديلا ذا توجهات مرتبطة بالسوق قسمت الناخبين على نحو متقارب، وفي الواقع مع أغلبية بسيطة لصالح اليسار إذا ما شمل المرء الشيوعيين السابقين. وهكذا فان مأزقا يعقد الأزمة يمكن أن يجعل الأحزاب المهيمنة غير ذات صلة بالموضوع عبر خلق تحول انتخابي كبير باتجاه الأحزاب الصغيرة حاليا أو الأحزاب الجديدة التي تقف في اقصى الطيف السياسي.

وتقدم شخصية المستشارة الجديدة أملا اضافيا. وكان مألوفا التقليل من قيمة العجز الواضح في الجاذبية الشخصية لأنجيلا ميركل اثناء الحملة الانتخابية. ولكن بالنسبة لمنصب المستشار فان الانجاز الاستثنائي لصعودها قد يثبت انه وثيق الصلة بالموضوع. فخلال عقد من الزمن تقدمت من موقع باحثة علمية غير معروفة في ألمانيا الشرقية الشيوعية الى موقع المستشارية بدون أن تمثل دائرة انتخابية خاصة بها مقابل خصوم في حزبها، ممن كرسوا حياتهم للصعود على السلم السياسي. وهناك الكثير من التفسيرات بالنسبة لتقدم أنجيلا ميركل الراسخ، وقد يعود بعضها الى المنافسة بين خصومها. ولكن في النهاية قد يكون اصرارها الحازم على تحقيق الأهداف الحقيقية هو الذي يخلق دافعها الخاص في الممارسة اليومية للحكم.

لم يكن من الوارد ان يشارك أي مستشار ألماني في حرب العراق. ولكن لم يكن من الوارد ايضا ان يؤسس أي مستشار او وزير خارجية ألماني سياساته على المعارضة المكشوفة والمباشرة للولايات المتحدة، ويدير حملتين انتخابيتين مركزا على قضية عدم الثقة العميقة في الأهداف النهائية للولايات المتحدة. كما لم يكن من الوارد ايضا ان تكون هناك جهود مشتركة علنية لألمانيا، مع كل من فرنسا وروسيا، لإجهاض المساعي الدبلوماسية الاميركية في الامم المتحدة.

تكمن المفارقة في ان إنهاك التحالف اضعف ايضا الوحدة الاوروبية. اذ ان ما حدث اغرى فرنسا باستعراض معارضتها للولايات المتحدة حتى تتوحد كل المعارضة الاوروبية للولايات بواسطة سياسة وطنية ألمانية. فقد طورت كل من ألمانيا وفرنسا رؤية للهوية الاوروبية ارتكزت على معارضة الولايات المتحدة. ومن الناحية الاخرى، لم يكن في حسابات دول اوروبا الشرقية التي انضمت الى الاتحاد الاوروبي التوافق مع وضع مثل هذا أو مع اوروبا مثل هذه. ولا تزال صورة اميركا في نظر هذه الدول هي تلك التي ظهرت خلال فترة ما بعد الحرب. اما مقارنة وزير الدفاع، دونالد رامسفيلد، بين اوروبا العجوز وأوروبا الحديثة، فلم يكن في واقع الأمر تشجيعا على الانشقاق بقدر ما كان وصفا لها.

ارتكبت اخطاء من الجانبين الاميركي والأوروبي على حد سواء. فإعلان ادارة بوش استراتيجيتها الجديدة المتمثلة في الحرب الاستباقية كان واحدا من هذه الأخطاء. يمكن الدفاع عن هذا المبدأ في ضوء التكنولوجيا المتغيرة وإنتاج اسلحة الدمار الشامل والإرهاب. إلا ان إعلان تغيير جذري لمبدأ مثل هذا كان مخالفا للعلاقات التقليدية بين الحلفاء.

يمكن القول ان قضية اتخاذ الخطوة الجماعية في مقابل اتخاذ خطوة من جانب واحد لا تتعلق بالإجراء وإنما ترتبط اصلا بالجوهر. فعندما تكون الأغراض متوازية يتبعها في الغالب القرار الجماعي، اما عندما تتباين الأغراض فإن القرار الإجماعي يصبح احتمالا ضعيفا. التحدي الذي واجه حلف شمال الاطلسي لم يكن تخليا عن اتباع الإجراءات المتعارف عليها بقدر ما كان تلاشيا تدريجيا للاحساس بالمصير المشترك للحلفاء.

كان هناك عدم ارتياح واضح لدى الجانبين الاميركي والأوروبي إزاء هذه الأوضاع حتى قبل الانتخابات الألمانية، ولا تزال الثقة بين الجانبين مهتزة. اذ ان المستشار الألماني السابق جيرهارد شرويدر ركز خلال حملته الانتخابية الاخيرة على التأكيد على نية حزبه الوقوف في وجه ما وصفــــه بــــالنـــزعة الامـــيركيـــة لخوض حروب غير ضرورية.

إلا ان اختـــلاف الأجيال يمكن ان يلعب دورا في اتجاه الجانبين الى المزيد من التعاون الايجابي. فالمستشارة الألمانية الجديدة عاشت تحت ظل الحكم الشيوعي خلال فترة الحرب الباردة. كما ان الجدل الدائر في الغرب حول قضية الأمن يبدو في نظر الكثير من ســــكان دول اوروبا الشرقية أمرا تافها مقارنة بالتحديات التي كانت تواجه حياة الناس خلال فترة الحكم الشيوعي. ويعتبر حلف شمال الاطلسي في نظر سكان هذه الدول بمثابة امل وليس جدلا واختلافات. وبالمقابل يعتبر الاندماج الاوروبي أمرا مهما كرؤية وكأفق، من أجل مستقبل افضل وليس وسيلة لإضعاف العلاقات مع الولايات المتحدة.

أبدت إدارة الرئيس بوش نية واضحة في التعاون مع الجانب الاوروبي، لكنها في حاجة الى السيطرة اولا على نزعتها الى إجراء المشاورات كوسيلة لفرض ما تريده، كما ثمة حاجة ايضا الى إفراد مساحة لوجهة النظر الألمانية حول المستقبل. فالتحدي الذي يواجه دول الأطلسي يكمن في الحاجة الى تطوير حس جديد بالمصير المشترك في عصر الجهاد والصعود الآسيوي وقضايا الفقر والأوبئة ونقص الطاقة.

* وزير خارجية أميركا السابق، خدمة «تريبيون ميديا سيرفيزيز» ـ خاص بـ«الشرق الأوسط»