صراع الإرادات: من يخطف الأمم المتحدة؟

TT

«كيف يمكن حفظ السلام؟» هذا السؤال هو في صلب مهمة الأمم المتحدة، المنظمة الدولية الوحيدة في العالم المكونة من سائر الدول، التي ساهمت في رسم خريطة العالم كما نعرفه اليوم. ولا شك في أن هذا السؤال الهام يحدد الطريقة التي ينظر فيها العالم الى الأمم المتحدة. بيد أن ما يحمل على طرح هذا السؤال اليوم لا علاقة له بالعراق أو فلسطين، أو حتى السودان أو أي نزاع دموي آخر، كما أنه لا يتعلق بنزاع يلوح في الأفق تسعى الأمم المتحدة الى التوسط لحله أو تهدئته. فما شهدته الأمم المتحدة هذا الأسبوع هو نزاع بين أعضائها آخذ بالتحول الى خلاف حاد، يختبر صلابة هذه المؤسسة الغارقة بالفضائح والمعرَّضة لحملات التشكيك التي يشنها مَن يحاول الانتقاص من هيبتها. ولا شك في أن هذه الأزمة الجديدة تؤثر على مصداقية الأمم المتحدة، وتحد من قدرتها على تفعيل الارادة المشتركة لأعضائها. وأصبحت كلمة «الإصلاح» على كل شفة ولسان داخل أروقة مقر الأمم المتحدة، الذي أصبحت ملامح القدم بادية عليه.

فعلى المحك اليوم مسألة سياسية حساسة تتعلق بتحديد الجهة التي ينبغي أن تُناط بها السلطة النهائية في الأمم المتحدة: أهو الأمين العام أم الجمعية العامة وأعضاؤها الـ191 الذين يتمتع كل منهم بصوت؟ فكل الدول الأعضاء في الجمعية العامة متساوية، سواء كانت جزراً صغيرة أو قوة عظمى، ولو كان بعضها متساويا أكثر من بعضها الآخر.

ومن المفارقة أن تكون الولايات المتحدة هي الجهة التي تدعم اليوم بقوة تعزيز الصلاحيات الادارية للأمين العام الذي يتمتع بنفوذ كبير في تحديد أجندة الأمم المتحدة، في مواجهة مجموعة الـ77 والصين. فهذه المجموعة التي تضم 132 دولة نامية والآخذة في استعادة نفوذها السياسي المفقود، تعارض بشدة مشروع تعزيز صلاحيات الأمين العام، خشية أن يمكن ذلك الأمر الولايات المتحدة من ممارسة نفوذها عليه، لا سيما في ضوء هامش الحرية غير المسبوق في العمل الذي يتمتع به اليوم.

وتجدر الاشارة الى أن أياً من أسلاف أنان الستة لم يتمكن من ادارة دفة الأمم المتحدة بهذا القدر من الاستقلالية، بل وحتى، حسب ما يعتبر البعض، من دون حسيب ولا رقيب. واذا كان انتهاء الحرب الباردة قد رفع منصب الأمين العام الى مكانة غير مسبوقة، فان كوفي أنان تمكن بلباقته وهدوئه الظاهري من اضفاء مكانة مرموقة على منصب الأمين العام. لكن النقاش الدائر حول الاصلاح الاداري وضع الدول النامية المتحدة في ما بينها أكثر من أي وقت مضى، في مواجهة الولايات المتحدة، والأمين العام المتهم بتحقيق مصالح واشنطن.

وبالتالي، فان حفظ السلام بين أعضاء الأمم المتحدة لن يحتاج الى القبعات الزرقاء، اذ أنه اختبار للارادات، سيما أن واشنطن أعلنت أن الاصلاح الاداري سيحدد موقفها من المنظمة الدولية، ملوِّحة بإمكان لجوئها الى محافل دولية أخرى عند الاقتضاء. وبتعبير آخر، فان لسان حال الولايات المتحدة هو: لا إصلاح، لا أموال.

وكانت مجموعة الـ77 والصين وجَّهت رسالة غير دبلوماسية اللهجة الى رئيس الجمعية العامة في 8 نوفمبر الماضي، انتقدت فيها بشدة سلطة الأمين العام في اطلاق المبادرات الادارية، وذلك «بالنظر الى الاجراءات الأخيرة التي اتخذتها الأمانة العامة للأمم المتحدة، والتي كانت تتعارض على ما يبدو مع الاتفاقات دقيقة التوازن التي تم التوصل اليها في سبتمبر الماضي». ويتهم البعض أنان، الذي نالت من هيبته فضيحة النفط مقابل الغذاء، بأنه يحاول اعادة الاعتبار الى نفسه باتخاذه مواقف أكثر ملاءمة للأميركيين، فاقداً في الوقت نفسه من صدقيته لدى عدد كبير من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، الى درجة بات الأمين العام يفتقر الى ثقتهم. وأصبحت عبارة «الإصلاح الإداري»، حسب ما يراها البعض، مرادفة لإطلاق يد الأميركيين للقيام بما يحلو لهم داخل المنظمة، الأمر الذي يفسر استياء الدول الأعضاء المعارضة.

وفي وقت دخلت المفاوضات بشأن مجلس حقوق الانسان ولجنة بناء السلام اللذين روّج لهما أنان، مرحلة حاسمة، تعكف الدول الأعضاء أيضاً على النظر في الميزانية التي اقترحها الأمين العام لفترة السنتين 2006-2007. وفيما لم يتبق سوى أربعة أسابيع للتوصل الى اتفاق على الميزانية، تكتسي مسألة «حفظ السلام» بين الدول الأعضاء أهمية خاصة لأنها تسمح للأمم المتحدة التي دخلت عامها الستين بالاستمرار. وإزاء هذه الخلفية، سيشكل اختيار الأمين العام المقبل للأمم المتحدة، لدى انتهاء ولاية أنان الثانية في 31 ديسمبر 2006 ، مسألة شائكة الى حد كبير.

لذا بات يتعين على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة البحث عن هدنة بعد اخفاق المنظمة الدولية في اصلاح مجلس الأمن، ووسط الجدل الدائر حول مجلس حقوق الانسان المقبل وحول الاصلاح الاداري، والتي لا تشكل سوى ثلاثة جوانب من الاصلاح الذي يقترحه أنان.

ولعله يتعين على الدول الأعضاء اتخاذ خطوة لبناء الثقة بتركيز طاقاتها على مشروع واحد للإصلاح، هو تحديد ولاية واحدة للأمين العام مدتها سبع سنوات غير قابلة للتجديد، على نحو يكفل استقلالية قراره. واذا ما تمكنوا من الاتفاق على هذا الاصلاح البسيط، لربما أصبحت مقترحات الاصلاح الأخرى أقل اثارة للجدل، مع بدء ولاية الأمين العام الجديد في مطلع عام 2007. وهذا أمر يعود بالنفع على الجميع، فـ«حفظ السلام» لا يتطلب في معظم الأحيان سوى نزع فتيل التوتر لتحويل الخصومة الى مودة.