العرب والعالم: الأقوال والأفعال .. والقضايا المصيرية

TT

على كل حريصٍ على وطنه وأمته اليوم أن يبحث عن مصادر متعددة للمعلومة الواحدة، لكي يعلم فعلاً حقيقة الهدف من وراء الخبر أو الإجراء، ولكي لا يقع ضحيةً للخلط المتعمّد بين الأمور الإجرائية من جهة والمصيرية من جهة أخرى. فقد قرأنا جميعاً عن الجدل الدائر اليوم في الأمم المتحدة بين السفير الأمريكي جون بولتون والأمين العام للأمم المتحدة، كوفي أنان، حول ما تمت تسميته بالإصلاح الإداري والموازنة، حيث يهددّ بولتون بعدم دفع حصة الولايات المتحدة من الموازنة، ما لم يقدم الأمين العام كل الاقتراحات المتعلقة بالإصلاحات الإدارية قبل شهر فبراير (شباط)، رغم أن وثيقة الأمم المتحدة تدعو أنان إلى تقديم توصيات إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لاتخاذ قرار خلال الربع الأول من عام 2006، واعتبر بولتون هذا الموعد متأخراً جداً.

وجوهر الجدل الدائر في هذا الصدد ليس الإصلاح الإداري كما تمت تسميته، وإنما لجان فلسطين المتعددة في الأمم المتحدة والتي تعتبر الحقوق الفلسطينية غير قابلة للتصرف، وهذه هي اللجان التي يريد بولتون إلغاءها من الوجود كي يضمن تنكر الأسرة الدولية رسمياً لحقوق الشعب الفلسطيني في القدس والأرض والمياه وحقوق اللاجئين. ونلاحظ أن أسلوب الضغط الذي يمارسه بولتون على المنظمة الدولية يشبه إلى حدٍّ بعيد الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة على أي دولة في العالم، و ذلك من خلال إيقاف التمويل (المقاطعة) والترغيب أحياناً والترهيب أحياناً أخرى.

كما نلاحظ أن تسمية الجدل بجدل حول «الإصلاح الإداري» هي تسمية مضلّلة جداً فما تريده الولايات المتحدة ليس الإصلاح الإداري وإنما توجيه ضربة قاصمة للجان قضايا الحق الفلسطيني في الأمم المتحدة ونلاحظ أن الاتحاد الأوروبي والذي يدفع 40% من ميزانية الأمم المتحدة لا يريد مواجهة مع الولايات المتحدة لأن المتضررّ الأول والأخير سيكون العرب والحق العربي وقضيتهم المركزية «فلسطين».

في الوقت ذاته، تمّ فتح معبر رفح بعد ثلاثة أشهر من الانسحاب الإسرائيلي من غزة وبعد زيارة و«جهود» بذلتها وزيرة الخارجية الأمريكية وبعد أن ثبّت المحتل حقه في أن يوافق أو لا يوافق على القادمين من السكان الأصليين. وبعد أن تمّ الاتفاق على أن يُفتح المعبر 4 ساعات يومياً وأن يدخله فقط حاملو الجواز الفلسطيني، هذا مع التذكير أن إسرائيل ما زالت تحتل الماء والجوّ في غزة، وتسيطر على الأرض متى شاءت وتضع منطاداً بكاميرات لتصادر كلّ صوت حرّ يرتفع ضد الاحتلال والإذلال. وفي الوقت ذاته تحولت مدينة الخليل إلى مدينة أشباح بعد أن تم تهجير ثلاثين ألف فلسطيني منها. كما اضطر معلمو ومعلمات مدرستين في المدينة القديمة في الخليل إلى تدريس تلاميذهم الـ 700 في العراء، بعد أن منعهم حاجز عسكري جديد من الوصول إلى مدارسهم، بل وتمّ اعتقال الأطفال من قبل قوات الاحتلال جرّاء احتجاجهم على الحاجز. ومع أن عائلة الطفل الشهيد الفلسطيني أحمد الخطيب، قامت بما لا يمكن لأبوين القيام به وهو التبرع بأعضائه لأطفال إسرائيليين فإن المديح ما زال ينصبّ على شارون وشجاعته والذي يعطي الأوامر للاستيطان والقتل وبناء الحواجز وتدمير حياة الفلسطينيين.

لدى العرب ملايين الشواهد في تاريخهم على إنسانيتهم وحضارتهم ونبذهم للعنف والاقتتال. ولكن ليس هذا هو المهم اليوم، إذ أنّ ما يجري يعتمد على من يمتلك عوامل القوة، ولا يفيد مع هذه القوة الانحناء أو التواضع أو التفهّم. وإذا كان العرب اليوم لا يمتلكون عناصر القوة العسكرية، فهم دون شك يمتلكون كل عوامل القوة الأخلاقية والثقافية، والتي لا تقلّ أهميةً في أبعادها المستقبلية عن عوامل القوة العسكرية اليوم.

إنّ أضعف الإيمان يقتضي أن يتشبث العرب بحقوقهم المصيرية، وألا يُخضعوها لمساومات إجرائية تحوّل الاستقلال إلى مجرد عبور بوابة وتحرير الأرض، إلى قبول الحواجز والجدران بعد التطهير العرقي الذي تعرّض له الشعب الفلسطيني. وإن انزياح اللغة والإعلام بعيداً عن الحقوق الوطنية والمصيرية للعرب في القدس والجولان وشبعا وفلسطين لا يبررّ للعرب على الإطلاق الانجراف مع هذا الانزياح الخطير، والذي يحاول إلغاء هذه الحقوق على الأرض وفي وثائق الأمم المتحدة ولجانها، بالإضافة إلى إزاحتها من الضمير العالمي عن طريق حملات الترويج التي تصورّ الانسحاب من غزة انتصاراً، وفتح معبر رفح استقلالاً حقيقياً يُحتفى به.

وكي يتمكن العرب من فعل ذلك لا بدّ لهم أن يتوحدوا مع شعوبهم، فلا يُهادنوا على قناعاتهم ومسائلهم المصيرية لكي يكسبوا رضى الشعوب، في الوقت الذي يعلمون فيه علم اليقين أنّ ما يقولونه لهذه الشعوب لا يعبّر تماماً عن حقيقة مجريات الأمور في الموازين الحقيقية الدولية والتاريخية. أي أن يتوحد مسؤولو قضايا العرب مع هذه القضايا أولاً، ومع الشعوب الحالية ومصالحها المستقبلية ثانياً، وأن تسود الشفافية المطلقة في طرح القضايا وتقييمها، فلا تستخدم لغة قيلت لإظهار إنجاز عظيم، بينما يعلم الجميع علم اليقين أنّ ما قيل قد قيل من أجل دعم شخص ما أو خط ما دون أن يخدم في النتيجة المصالح الوطنية والقومية. يجب ألا تكون الهوّة بين القادة والشعوب منفذاً لمن يريد النيل من هذه الأمة وألا تكون بعض المصالح الصغيرة بوابة لمصادرة حقوق وطنية كبرى لن تغفر أجيال المستقبل التهاون بشأنها ويجب ألا يعتقد أحد أنه قادر في زمن المعلومة المفتوحة والمتنقلة بين أرجاء الأرض، على إقناع طفل صغير بالأوهام أو بالأقوال للتغطية على حقيقة ما يجري على الأرض.

فبالرغم من كلّ تحفظاتنا على عصر المعلومات، والذي جعل من الممكن تشويه المعلومة وخلق مفاهيم لا علاقة لها بالواقع، فإنّ الحقيقة الثابتة هي أن المعلومات، بحلوّها ومرّها، بصدقها وكذبها، أصبحت متاحةً للجميع مما رفع من نسبة الوعي والتساؤل والشكوك لدى الجميع، وأصبح القادة والمسؤولون بحاجة ماسة لأن يمتلكوا كلّ الأدوات المعرفية والمعلومات، لكي يتمكنوا من إقناع الناس بسداد رأيهم وحسن تعاملهم مع القضايا المصيرية. لقد أصبح لزاماً على العرب جميعاً أن يتعاملوا مع الوقائع على الساحة العربية والدولية، وألا يقتنعوا بالتعبير عن «قلق» أو «أمل» بينما يُساق شبابهم إلى السجون والمعتقلات.

وقد برهن المتربصون لهذه الأمة على أنهم يحترمون من يفهم استراتيجيتهم ويعدّ لها العدّة ويردّ عليهم بالمثل ويقف أمام جماهيره والعالم ليتحدث عن الداخل والخارج وكل مداخلات القضايا بصدقٍ وشفافية لأنه توحّد مع قضاياه وشعبه. إنّ الاستهداف لهذه الأمة كبير ومصيري وذلك لأنّ لهذه الأمة من المقوّمات التاريخية والحضارية والثقافية والأخلاقية ما هو محطّ حسد وغيرة وغضب الآخرين، فلنؤمن بها أولاً وبشعبنا ثانياً ولننقل إلى الأسرة الدولية قراءتنا للأفعال لا الأقوال على كافة الصعد. ولنعدّ العدّة السليمة للردّ على الأفعال بكلّ ما نمتلك من فكر وخبرة وقوة، آنذاك فقط سيكون لنا رأي يحترمه الآخرون وسننقذ قضايانا المصيرية من تحويلها إلى مسائل إجرائية، بغية الانقضاض عليها وتدمير ركائزها القانونية والأخلاقية والسياسية في عيون العالم وقلوب العرب وضمائرهم. آنذاك فقط سيتمّ التوقف عن وصف العرب بالإرهابيين وتشويه صورهم في أفلام هوليود. وآنذاك فقط سيأنف العالم من الاحتفال بفتح معبر صغير لسكان أصليين لهم الحق في أرضهم وسمائهم ومياههم، بدون وصاية الاحتلال والأسرة الدولية على شعب يستحق الحرية و السيادة على أرضه ومقدراته أسوةً بكلّ شعوب الأرض.