آباء وأبناء

TT

اول ما حلم به جيلنا كان عالم التسكع الرومانسي. السفر الى القاهرة من اجل مقاهيها لا من اجل مناراتها. السفر الى باريس من اجل الليل في المونبارناس والنهار في حديقة اللوكسمبور، سيدة الحدائق في القصائد وعالم الكتب. ولما وصلنا الى المقهى المقابل لها اقتعدنا الكرسي ولم يعد يخطر لنا ان نعبر الطريق الى الحديقة حتى في الربيع وزهور ايار وزنابقه. وعندما ذهبت اول مرة الى لندن توجهت الى «فليت ستريت» لأطالع من الخارج عناوين الصحف التي ملأت مخيلتي والتي كنت اقتر لكي استطيع شراءها. كنا نعتقد ان الشعر يأتي في السفر. والابداع ينمو في المدن الأخرى. والروايات تكتب على مقاعد الحدائق العامة في باريس او فيينا. لكننا لم نعثر في الحدائق الا على البرد وسيدات يخاطبن كلابهن بأسماء الدلع. واسرّ الي شاب لبناني تعرفت اليه في فيينا، بالطريقة المثلى لكي افتح باب صداقة مع فتاة نمساوية. قال، عندما تلمح فتاة تؤنب كلبها، اقترب ودافع عنه. وأنبها على ذلك. لكن تأكد بعدها انك تملك ثمن الدعوة الى مطعم. ولم يكن ذلك اكيداً.

اسأل ابني ماذا يقرأ رفاقه من الشعر والأدب، فيقول في صراحة جيله: «لا شيء». وماذا يعملون؟ زينب في ميريل لينش. وقيصر في البنك البرازيلي. ورشيد في مورغان ستانلي. ولؤي في السيتي. وميشا في بنك الباري با. والشعر؟ وحديقة اللوكسمبور؟ والدافودل الأصفر في الهايد بارك؟ لا. لؤي يعمل 12 ساعة، لأنه سيتقاعد في الخامسة والثلاثين. وميشا تعمل 12 ساعة لتضمن معرفة حركة الأسواق في اميركا وآسيا. ورشيد يعمل في عطلة الاسبوع لانه يريد ان يغير شقته.

ألا يحلمون بمصافحة نزار قباني في آخر الأمسية؟ ألا يهمهم الذهاب الى بعلبك لحضور فون كاريان يدير فرقة برلين، ولو مرة في العمر؟ ألا يقفون في الطابور الطويل من اجل بطاقة لحضور ايللا فيتزجيرالد في البلاديوم؟ لا. ثم من هي ايللا فيتزجيرالد في اي حال؟ «هل هي من ايامكم»؟ كنت اسمع امي تغني وحيدة في البيت الخالي، اغاني اسمهان وليلى مراد وعبد الوهاب. وما زلت احبها. وكنت اسمع والدي يدندن «عندما يأتي المساء». وما زلت احبها. وكانت تقرأ لي امي قبل النوم سيرة الزير وحكاية عنترة. وما زلت اتذكرها بمتعة.

لم يحدث ذلك الانقطاع الواقع الآن بين الأجيال. تغيرت عصورنا في هدوء. وكانت الثروة بالنسبة الينا هي الكفاية والغنى هو الضمانة. ومهما كسب الجيل الحالي يرى ان امامه طريقاً طويلاً جداً حتى الى المساواة مع سواه. افظع ما حدث في السنوات الاخيرة هو القفز الرهيب من معدلات الكفاية الى مطالب الخيال. وأسوأ ما حدث هو غياب الطبقة الوسطى ومقاييسها ونهجها في الحياة. الناس الآن اما فقراء او اغنياء. والغني يتطلع حوله فيرى انه فقير ولا بد من مزيد لكي يتساوى مع سواه او يتفوق. واسأل ابني ماذا يريد ان يفعل. فيقول، لا ادري. لكنني لا اريد ان اعيش على المسكنات مثل لؤي. ولا على المنبهات مثل ميشا. لا ادري. لا اعرف.