السودان: ما فيه يكفيه.. فلماذا الاستزادة..؟

TT

نشر في «الشرق الأوسط» عن ثلاثة خطوط عريضة حول السودان، الأول يشير إلى اتهامه لجارته تشاد بتأجيج الصراع في اقليم دارفور المضطرب، والثاني ينقل تعهد الرئيس السوداني بانجاح مفاوضات «ابوجا» بين الحكومة ومقاتلي دارفور، والثالث يقول: مبادرة سودانية لإعادة الثقة بين سوريا ولبنان والوصول الى حقيقة من اغتال رفيق الحريري.. وعلى الفور خطر على البال المثل الذي يقول «ما فينا يكفينا» بمعنى ان المعاناة من ازمة دارفور وتداعياتها التي تفجرت توتراً مع الجارة تشاد، وما استتبع ذلك من تشكيك في قدرة السودان استضافة القمة الافريقية بعد شهر، وانتقادات شديدة من مبعوث الأمم المتحدة وصلت درجة التلويح بالتهديد باقناع المانحين بعدم تقديم العون للسودان، كل ذلك يكفي السودان للغوص فيه وحتى يبرأ مما هو فيه ومن ثم يفكر في معالجة الأزمة اللبنانية ـ السورية وحقيقة من اغتال الحريري!

وحتى لو كان السودان بلا مشاكل من هذا الوزن الثقيل والتي تنازعه حتى في هويته، لا يبدو لي أنه الدولة الانسب التي تأنس في نفسها توافر الامكانات التي تجعل النجاح ممكنا في هذه القضية البالغة التعقيد بين سوريا ولبنان، خاصة بعد ان بلغت هذا المدى من التدخل الدولي، فعلى مدى التاريخ المنظور لم تكن للسودان اية علاقات خصوصية مع سوريا ولبنان، مثلما كانت للبلدين علاقات متميزة مع الأردن والسعودية ومصر، وفي كل الاحوال فان السودان لا يعتبر من بين الدول الحليفة أو الصديقة للولايات المتحدة بحسبان ان امريكا هي الدولة العظمى التي تتصدر هذه القضية، وبالتالي يمكنه ان يلعب دوراً توفيقيا يؤدي الى حلحلة التعقيدات الكثيرة أو تخفيف الاحتقانات المتزايدة!

ولكن من سياق ما تبين من المؤتمر الصحفي الذي عقده مستشار الرئيس السوداني د. مصطفى عثمان في دمشق بعد تسليمه رسالة من البشير للأسد، ان السودان يسعى لتعبئة الطاقات العربية وحشدها في وجه الاستهداف والضغوط المتزايدة على سوريا اكثر من السعي المتوازن لإعادة الثقة بين سوريا ولبنان، انه يقول بالحرف في رد على سؤال لـ «الشرق الأوسط»: ان موقف بلاده ثابت تجاه ما تتعرض له سورية من ضغوط متزايدة وان هناك استهدافا واضحاً لها يستدعي ايجاد موقف عربي تضامني خلال القمة العربية التي سيستضيفها السودان بعد ثلاثة أشهر أولا يبدو الانحياز المسبق من السيد المستشار لسوريا متجاوزاً التحقيق وما قد يسفر عنه ما يجعل السودان.. لا يحتفظ باية مسافة مطلوبة بين الاطراف المختلفة!

ومع ذلك يبدو حديث المستشار متناقضاً وهو يحض العرب على عدم ترك سوريا وحدها في مواجهة استخدام التحقيق في اغتيال الحريري «قميص عثمان او حصان طروادة» وتشديده على أهمية وجود تنسيق سوري لبناني لتكون العلاقة بين البلدين طيبة تمنع اية محاولة لاستخدام هذه القضية! ترى كيف يكون التنسيق ممكنا دون ان يأخذ التحقيق مساره الطبيعي وفق ما قدر له المجتمع الدولي بينما لم ترد على لسان المستشار اية دعوة لسوريا للتعاون مع المحقق الدولي الأمر الذي طالبت به كل الدول العربية؟ ولا ندري عندما يذهب الى لبنان ماذا سيقدم لهم من مقترحات لتسويق مبادرة السودان بعد ان التزم في دمشق بما اسماها ثوابت الموقف السوداني في التعضيد.. والتأييد لسوريا!

مهما يكن من الامر اننا لم نسمع منذ اغتيال الرئيس الحريري وحتى الآن ان اية دولة عربية قد تقدمت بمبادرة بما في ذلك الجامعة العربية ولا نحسب اننا في السودان اكثر تأهيلا من غيرنا من هذه الدول حتى نتقدم بمبادرة.. بل اننا في اطراف العالم العربي وليس قلبه النابض كما يقال، ومع ذلك فنحن الاكثر احتياجاً لمصالحة الولايات المتحدة لا مناطحتها علماً بأنه ليس في العالم العربي الآن من يريد مناطحتها وحتى سوريا لا تخفي رغبتها في مصالحة امريكا! وان شئنا الدقة فيمكننا ان نقول من واقع الحال العربي: ليس هناك اية قدرة للدخول في مواجهات مع سيدة العالم في الوقت الراهن.

وتبدو تناقضات دعوة المستشار السوداني اكثر وضوحاً عندما نقارن حضه للعالم العربي للمواجهة مع مسعى حكومة السودان المتواصل لدى الولايات المتحدة لرفع عقوباتها عن السودان ولتطبيع العلاقات بين البلدين. واكثر من ذلك لتقديم العون المادي لتنمية مناطق السودان المتأثرة بالحرب وحشد الدول الصديقة لها للايفاء بما التزمت به من دعم. وفوق هذا وذاك فان السلام نفسه كانت الولايات المتحدة هي مهندسته وما زالت راعيته الأولى، وبلغ بها الأمر في التدخل بعمق في الشأن السوداني انها الآن تقوم بوساطة لمعالجة خلافات بين قيادات حركة تحرير السودان في دارفور ما يعني ان تدخلها في الشأن السوداني وصل مراحل دقيقة جداً.

وبالرغم من كل هذه التدخلات من امريكا والآمال المعقودة عليها، هناك شكوك من الشمال العربي في انها تراودها اهداف في الانعطاف بالسودان كليا نحو محيطه الافريقي بعيداً عن محيطه العربي.. ولعل مثل هذه المبادرة العربية التي اطلقها مستشار الرئيس في دمشق وهي تحمل عداءً ظاهراً ومبطناً لامريكا من شأنها أن تحدث اثراً سلبياً لدى الولايات المتحدة يزيد من احتمالات تبنيها لابعاد السودان من محيطه العربي.

في كل الاحوال لا يبدو أن اهل الحكم في السودان قد تدارسوا بعمق هذه المبادرة التي تحدث عنها المستشار الرئاسي د. مصطفى عثمان سواء من واقع الحال السوداني أو الواقع العربي وظروف تعقيداته أو من خلال نظرة المجتمع الدولي، وهي بكل تأكيد لن يكون لها اي اثر ايجابي والمرجح ان يكون لها اثر سلبي على السودان.