حسب التوقيت المحلي لنادل المقهى

TT

انفرط عقد الوقت وتدحرجت ساعاته كحبات مسبحة فرت من قبضة مرائي. فحينما ولجت المقهى كانت الساعة تشير إلى التاسعة حسب التوقيت المحلي لنادل المقهى، وعندما عدت إلى بيتنا كانت الساعة قد تجاوزت الثالثة صباحا.. ست ساعات بالتمام والكمال يفترض أن تكون عبرت من جوار المقهى دون أن أتنبه لعبورها. لا يمكن أن يكون كل هذا الوقت قد مضى في تناول فنجان من القهوة وإبريق من الشاي.. أتذكر أن تلفاز المقهى كان يعرض صورة حسناء وطست غسيل وصوتا أنثويا يغني:

حبيبي قرَب.. بص وبص بص

زعلان ازعل.. ازعل نص ونص.

وحينما احتج بعض الزاهدين على العرض، بدَل نادل المقهى القناة على غير هواه، وراح يكمل بصوته الأجش كلمات الأغنية:

لاحسن ح أبعد.. أبعد آه ونص

وحتبقى انت أكيد خســران

كانت القناة الأخرى تعرض فيلما وثائقيا عن انفلونزا الطيور، فرفع أحدهم عقيرته احتجاجا ـ لعله تاجر دجاج ـ وهو يجزم أن انفلونزا الطيور مؤامرة رخيصة أشاعها مصدرو لحوم الثيران المصابة بجنون البقر.. ومن أجل خاطر ذلك التاجر المكلوم تحول الجميع إلى قناة ثالثة.

خلفي مباشرة راح شاعر يقطر قصيدة غزليه، وهو يحاول أن يرتق صوته المشقوق على مسامع رجل ربما كان طبيب عظام. كانت أبيات القصيدة مكسرة، وطبيب العظام يعتذر للشاعر بأن كسورها مضاعفة، وأنها في حاجة لأن تبقى في الجبس أطول فترة ممكنة.

في ركن المقهى القريب اجتمع شمل مجموعة بدت وكأن أفرادها من الـ«مثقفين»، فهم يتكلمون جميعهم في وقت واحد، رغم أنهم خارج «الاتجاه المعاكس».. تحدثوا عن الانتهازية فارتدى الكل ثياب العفة، وتكلموا عن الوصولية فمقتها الجميع، وعن ازدواجية بعض (المثقفين) فرجمها الحضور بحجارة الكلام.. وقال الذي غمس إصبعه لتوه في صحن الثقافة:

ـ يا لهم من نبلاء رائعين!

تنحنح «مثقف»، وطرقع إصبعه آخر، أما الذي نسي طاقم أسنانه في البيت، فقد حاول مص بعض الحروف وهو يشكر ذلك الإطراء.

وينطلق صوت أمينة رزق محتجا من شاشة التلفاز:

ـ يااااا لهوي!

في الطريق من المقهي إلى البيت كنت اجتر كلاما لـ «تشيكوف» يصف فيه بعض المثقفين بأنهم يقولون ما لا يفعلون، وأنهم أشبه بجامعي الثمار يقضون العمر في حالة انحناء لالتقاط ما تجود به الريح والعاصفة وسخاء الأشجار.

[email protected]