هل سيكون مصير «الإسلام هو الحل» كمصير الشعارات القومية?!

TT

الفوز الذي حققه «الإخوان المسلمون» في انتخابات مصر الأخيرة، رغم تواضعه، إلاَّ أنه وضع كل قوى وحركات وتنظيمات ومنظمات قوى الإسلام السياسي على منعطف حاسم وأمام امتحان صعب، وبهذا فقد بات عليها إما أن تتصرف بغير ما تصرف به «القوميون» و

«اليساريون» العرب الذين وقفوا عند هذا المنعطف ذات يوم، فتكسب الرهان وتصبح خيول السباق الرابحة لفترة طويلة، وإما ان تقع في الأخطاء نفسها التي وقع بها مَنْ سبقها فتكـون عاقبتها كعاقبة هؤلاء وربما أسوأ.

في مراحل ما بعد الحرب العالمية الثانية برزت الحركة القومية العربية الممثلة بحزب البعث وبحركة القوميين العرب وبالتيار الناصري، بروزاً هائلاً وتمكنت بشعاراتها الوردية وصراخها الثوري الذي تركز على قضيتي فلسطين والوحدة، ان تلف حولها الشارع العربي وأن تصبح أمل أمةٍ ممزقة ومجزَّأة أصيبت إصابة قاتلة بشرفها عندما خسرت الحرب في فلسطين وقامت دولة إسرائيل على هذا الجزء الاستراتيجي من الوطن العربي، وهو جزء بموقعه وتاريخه يشكل قلب هذه المنطقة.

وكما ان الإخوان المسلمين يرفعون الآن شعاراً جميلاً يخوضون تحت راياته وفي ظلاله كل معاركهم السياسية هو : «الإسلام هو الحل»، فقد رفع البعثيون في عقدي الخمسينات والستينات من القرن الماضي شعار : «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة» وشعار : «لا وحدة بلا فلسطين ولا فلسطين بلا وحدة».

ورفع «القوميون العرب»، الذين تحالفوا مع عبد الناصر في فترة لاحقة وغدوا سلاحه في مواجهة حزب البعث والأنظمة العربية المحافظة، شعاراً أكثر سخونة وبريقاً هو : «وحدة تحرر ثار دم حديد نار»، وقد تطور هذا الشعار بعد عام 1967 فأصبح : «ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة»، وهذا هو الشعار الذي رفعته مصر الناصرية في أعقاب هزيمة يونيو (حزيران) المنكرة التي ترتب عليها احتلال إسرائيل لكل فلسطين وفوقها احتلال سيناء بأكملها وهضبة الجولان السورية.

وأيضاً ومع ان التيار اليساري ـ الشيوعي لم يحظ بالمكانة التي حظي بها البعثيون والقوميون العرب الناصريون في الشارع العربي، إلا أنهم بدورهم بادروا الى رفع شعار جميل هو : «وطن حرٌّ وشعب سعيد»، وكان اختلافهم عن القوميين أنهم كانوا أكثر تواضعاً وربما أكثر

«تواطؤاً» وأنهم لم ينادوا لا بتحرير فلسطين ولا بتحقيق الوحدة العربية الشاملة «من المحيط الهادر الى الخليج الثائر».

لقد ذهب البعثيون والقوميون عموماً بشعاراتهم الجميلة ليس الى صناديق الاقتراع، على غرار ما يفعله الآن «الإخوان المسلمون» بشعار : «الإسلام هو الحل»، وإنما الى ثكنات الجيش والى ملاعب المدارس وساحات الجامعات، وكانت النتيجة الوصول الى الحكم من خلال أبراج الدبابات وليس بالأساليب الديموقراطية، وكانت البداية كما هو معروف «ثورة الضباط الأحرار» في مصر ثم إنقلابي فبراير

(شباط) ومارس (آذار) في عام 1963 في كل من العراق وسوريا ثم بعد ذلك حلول الجبهة القومية محل البريطانيين بعد رحيلهم عن جنوب اليمن في عام 1967.

لقد كان الامتحان عسيراً وصعباً، وكانت البداية ان الذين رفعوا شعار الوحدة العربية، عندما كانوا يشكلون المعارضة القومية، قد تحولوا الى أكثر إقليمية وقُطرية من الأنظمة التي انقلبوا عليها، وان الحرية التي تغنى بها هؤلاء عندما كانوا يسعون الى الحكم أصبحت زنازين رهيبة وسجوناً رطبة بلا أبواب ولا نوافذ وغدت ساحات إعدام وأعواد مشانق ومقابر جماعية.

لم تصمد شعارات أيام المعارضة والصخب القومي الهادر أمام مغريات الحكم والمحافظة عليه والتشبث به، فانهارت هذه الشعارات كلها في نظر الشارع العربي الذي سار وراءها كالمـُخدَّر لنحو عقدين من الأعوام وأكثر .. ثم جاءت الضربة القاضية عندما لم تصمد أنظمة الانقلابات العسكرية هذه التي طالما تغنت بتحرير فلسطين ووعدت وتوعدت بإلقاء اليهود في البحر، فهُزمت تلك الهزيمة النكراء في حـرب يونيو (حزيران) عام 1967.

... إفلاس على صعيد الحريات العامة وحقوق الإنسان وتنكر للوحدة العربية الموعودة وفشل وأكثر من الفشل بالنسبة لتحرير فلسطين وتواضع وأقل منه في ما يتعلق بالإنجازات الاقتصادية، وكانت النتيجة ان الأحلام الجميلة والشعارات البراقة انهارت كلها دفعة واحدة عندما اصطدمت بجدران الحقيقة، فأحس الإنسان العربي، الذي صحا من أحلامه في صبيحة الخامس من يونيو (حزيران) عام 1967، بالفراغ وأحس بالخديعة والخذلان والإحباط.

وهكذا ولأن شعار: «الإسلام هو الحل»، لم يكن قد أخذ المكانة التي يأخذها الآن بعد، فقد اتجه الشارع العربي تحت وطأة الهزيمة ومرارة الاحباط نحو بنادق الكلاشنكوف التي رفعها الفدائيون الفلسطينيون ورفعوا معها شعار :«الكفاح المسلح وحرب الشعب الطويلة الأمد»، ورفعوا مع هذا الشعار ما قاله عبد الناصر في لحظة الإحساس بوطأة الهزيمة ومرارتها : «ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة».

لقد أُعتبرت المقاومة المسلحة هي الرد الناجع على الهزيمة فاندفع الشارع العربي نحوها وأعطاها كل ثقته وتأييده رغم ان أنظمة الانقلابات العسكرية سعت لركوب موجتها العارمة، وأن البعث السوري شكل منظمته الخاصة التي هي طلائع حرب التحرير الشعبية ـ قوات الصاعقة ـ وان البعث العراقي تقدم الى مهرجان بنادق الكلاشنكوف المرفوعة بـ«الجبهة العربية» وان مصر الناصرية قبل ان تمنح كل دعمها لحركة «فتح» أعلنت عن تشكيل تنظيم لم يعش طويلاً هو منظمة سيناء العربية.

لكن وكما هو معروف فإن ظاهرة الكفاح المسلح ما لبثت ان غرقت في أوحال ورمال الحرب الأهلية اللبنانية، ثم ما لبثت شمعة هذه الظاهرة ان انطفأت بعد إخراج منظمة التحرير من بيروت فتحركت قوى الإسلام السياسي رافعة شعار: «الإسلام هو الحل» لتملأ الفراغ وهو شعار اختطف عواطف الجماهير العربية الباحثة عن البطل المنقذ في البدايات، لكنه ما لبث ان أخذ يتآكل في السنوات الأخيرة.

وهذا يعني وبكل تأكيد أن تجربة قوى الاسلام السياسي ستنتهي الى حيث انتهت تجربة الحركة القومية العربية وتجربة ظاهرة الكفاح المسلح إن لم يستطع «الإخوان المسلمون» الذين حققوا هذا النجاح الذي حققوه في مصر تطوير شعاراتهم وتحويلها الى برامج عملية قابلة للتطبيق، وإن لم يتخلوا عن الصيغ العامة التي يتمسكون بها والتي ربما كانت مفيدة في السابق في عهود ومراحل المعارضة والمواجهة مع الأنظمة القائمة، لكنها بالتأكيد لن تكون مفيدة بعد كل هذا الاقتراب من مواقع الحكم والسلطة.