تقرير آخر عن الانتخابات المصرية!

TT

انتهت الانتخابات المصرية كما تنتهى كل الأمور في السياسة وغير السياسة، وفي كل مرة فإن السؤال القائم دوما، هو ثم ماذا بعد ذلك، وهل يوجد فيما جرى ما يدعو إلى التفاؤل أو أن المسألة برمتها تدعو إلى اليأس والقنوط؟ والحقيقة أنه كان بوسع المتفائل أن يجد في المشهد الراهن في السياسة المصرية ما يدعوه إلى الحماس بأن ما بدأ فى 26 من فبراير الماضي بطلب الرئيس حسني مبارك من مجلسي الشعب والشورى تعديل المادة 76 من الدستور، كان بداية لرحلة طويلة من التغييرات الدستورية والقانونية التي أتاحت تنافسا لم يكن موجودا، ومشاركة لم تكن متاحة، وفتحت الباب مع نهاية المعركة الانتخابية النيابية لعملية إصلاح دستورية أكثر عمقا من كل ما سبق. بمعنى آخر فإننا كنا إزاء نق طة على الطريق لها ما قبلها، ولها ما بعدها، ولا ينبغي الحكم عليها في هذه الحالة المبكرة من المسيرة!

وبشكل ما، فإن المتفائل سوف يجد ما انتهت إليه الأمور مشجعا للغاية، لما سوف يأتي بعد ذلك من إصلاح، فقد كان الفوز الخامس للرئيس المصري ضمانة لاستمرارية تشرف عليها شخصية ناضجة، عاصرت التحولات العظمى للسياسة المصرية وقادرة بما تتمتع به من ثقل تاريخي أن تأخذ السفينة المصرية حتى ميناء آمن. كما أن عملية التحجيم التي تعرض لها الحزب الوطني الديموقراطي من خلال الأصوات الفعلية التي حصل عليها، والزيادة التي جرت للمعارضين في مجلس الشعب، وحالة الفحص الكبرى الجارية داخل المجتمع المصري من خلال تمدد إعلامي لم يتيسر من قبل، كل ذلك يخلق حالة توازنية جديدة، لا تملك فيها السلطة القدرة على الاعتراض، كما لا تملك الحق في ممارسة الجمود الذي كان آفتها خلال السنوات القليلة الماضية.

ولكن المتشائم لن يقل أبدا حماسا فى التعامل مع الأحداث، وهو يشير إلى أن أوراق اللعبة السياسية تفرقت وتجمعت، وأعيد ترتيبها بكافة الطرق من تعديلات دستورية وانتخابات تشريعية وغارات إعلامية استمرت طوال الليل والنهار، ولكنها انتهت تماما كما بدأت. فالرئيس لا يزال رئيسا في موقعه، والوجوه الرئيسية لا تزال جالسة على كراسيها، وتوازن القوى في مجلس الشعب بقي على حاله، حيث تستطيع السلطة المصرية تمرير القوانين بأغلبية الثلثين، التي ترغب في تمريرها، بنفس الطريقة التي كان عليها الحال في الماضي، وأدت إلى تمرير التعديل الدستوري للمادة 76 بالطريقة التي تم بها. وإذا كان هناك من تغيير جرى فقد كان في الممارسة نفسها، التي أدت إلى طوفان من العنف، والابتزاز السياسي، والبلطجة، وضياع هيبة الدولة، وانقسام القضاء، واختفاء أبسط درجات الحياد الإعلامي والسياسي من ساحات الصحف والتلفزيون. وإذا كان كل ما جرى قد جرى تحت أعين الكافة، فما هو الخير من تعديلات دستورية وقانونية مقبلة، خاصة بعد أن قررت الأغلبية الساحقة من المواطنين، البقاء بعيدا عن حالة من حالات الحروب؟!

ولكن بعيدا عن حالتي التفاؤل والتشاؤم، وكلاهما حالة متطرفة من التوجهات والسلوكيات، فإن الديناميات المؤثرة في السياسية المصرية تبدو بالفعل مبشرة بقدر ما هي منذرة. فالبيروقراطي المصري الشهير قاد عملية منضبطة للتغيير لم يكن أبدا مرحبا بها منذ البداية، ونجح وسط حملة دعائية واسعة أن يوحي بتغيير تنافسي في الانتخابات الرئاسية، وجرت عملية التفصيل القانوني بالطريقة التي تمت بها بحيث جعلت المادة 76 من المواد العجيبة بين دساتير العالم المتحضر بالطبع. وبعد ذلك استخدم القانون واقترب منه وابتعد حسب تغير الفصول في الجولات الانتخابية، وعندما حمى الوطيس تماما مع الجولة الثالثة أسفر الاتحاد الاشتراكي العربي عن أنيابه الوطنية، ولم يعد أمام الديموقراطية متسع كبير. وببساطة كان البيروقراطي حانقا لأن قواعد اللعبة الانتخابية كادت تتغير بفعل النجاح النسبي لمعارضة الإخوان المسلمين، واندفعت الشكوك والهواجس لكي تبدد سماوات «أزهى عصور الديموقراطية» التي طالما رفع شعارها الأمين العام للحزب الوطني. وعندما انتهت اللعبة الانتخابية لم يصل إلى إدراك الحزب أن الأمر ليس لعبة على الإطلاق، وأن الجمهور لم يعد جاهزا لتلقي نفس العرض والرواية حتى ولو تغير الإخراج تماما.

ولكن الثيوقراطي المصري كان يشعر بنشوة بالغة من البداية على النهاية، فبينما كان يبحث عن ثغرة تتيح له مجرد التواجد على سطح الحياة السياسية، إذا الأبواب تفتح على مصاريعها، ويجد نفسه وقد حصل على عدد من المقاعد لم يكن يحلم بها. وكان أبرز نجاحات الثيوقراطي هي أنه قام بإعادة تعريف الحياة السياسية من جديد. فلم تكن المعركة الانتخابية بين اليمين واليسار، ولم تكن بين أنصار السلام وجماعات الحرب، ولا كانت المعركة بين من يريد تدخل الدولة في الاقتصاد ومن يريد إبعادها عنها، وإنما أصبحت المعركة حول الإخوان المسلمين ونصيبهم ونفوذهم في السياسة المصرية قبل أن تجف أحبار الجولة الأولى للانتخابات. وبشكل ما بدت جماعة الإخوان «المحظورة» في مصر أشبه بطائر العنقاء الأسطوري الذي ينهض من الرماد، معلنا زوال عهد وظهور عهد جديد. فلم يعد بمقدور أحد، حتى الحزب الوطني الديموقراطي أن يفرض مواقفه على الأحزاب الأخرى، وهي في يدها ليس فقط حقوق المساءلة، وإنما القدرة على الانسحاب والاستقالة الجماعية، وخلق أزمة سياسية ودستورية تضغط على حلوق الجميع. وفوق ذلك كله، فإن جماعة الإخوان المسلمين «المحظورة» سوف تفرض على الجميع في المجلس النيابي الحضور والمشاركة، وهي مهمة ثقيلة على الحزب الوطني الذي فضل أعضاؤه كثيرا إبقاء المقاعد فارغة!

وربما كان أكثر النماذج السياسية حيرة وإحباطا ذلك الديموقراطي الذي ظن أن فكرة الديموقراطية قد صارت هي المرجعية السياسية الأساسية في البلاد. وبعد عقود من اعتبار «المشاركة» و«الانتخابات» و«تداول السلطة»، والدعوة إلى انتخابات حرة نوعا من التشبه بالمجتمعات الغربية المنافقة التي تحكمها «البورجوازية»، والتي يبعد تراثها عن تراثنا بعد السماء السابعة، فإن ارتقاء الفكرة الديموقراطية إلى مرحلة التطبيق في مصر من خلال الانتخابات الرئاسية والنيابية كان اعترافا لما للفكرة من حيوية وقدرة. وبدون الدخول في تفاصيل كثيرة، فقد بدا أن رياح الديموقراطية قد وصلت أخيرا إلى بر مصر تعصف بسكون النيل وهو في طريقه المعتاد والذي لا يتغير من المنبع إلى المصب. ولم يكن ذلك هو ما حير الديموقراطي، وإنما كان ما حيره أن أصحاب الفكرة الديموقراطية تساقطوا الواحد بعد الآخر، ولم يخسر الديموقراطيون في أحزاب المعارضة فقط، بل خسر معهم الديموقراطيون داخل الحزب الوطني نفسه. وهكذا أصبحت المفارقة جلية بأكثر من أي وقت مضى، فقد نجحت الفكرة الديموقراطية، ولكن أنصارها رسبوا في الامتحان، وأفضت العملية كلها بنفسها إلى حالة يرتفع فيها صوت الثيوقراطي والبيروقراطي لأسباب مختلفة. ومن يعرف التاريخ لن يجد فى ذلك حالة غريبة أو استثنائية، فقد ظهر البيروقراطي والثيوقراطي من قلب الديموقراطية وحدهما في الساحة تقريبا، بينما بقي الديموقراطي يلعن الديموقراطية التي جاءت في غير موعدها حيث بقي الجمهور الحقيقي مراقبا ما سوف تفضي إليه أحداث الزمن!