دفاعا عن الليل!

TT

تعج أدبياتنا بالكثير مما كتب حول الليل، وكثيرا ما كان هذا الارتباط سلبيا، فما يرتبط بالليل يكون مرتبطا بالخوف، وعدم وضوح الرؤية إن لم يكن انعدامها، كما اقترن الليل بالعتمة وبالظلام، ومن الظلام اشتقت الظلمة، ومنها اشتق الظلم والظالم، والمظلمة والظلامة،..

ولكن الليل ارتبط بالسهر والسمر والمسامرة، وتغني به الشعراء والمطربون ملايين المرات، فكم مرة غنينا: «يا ليلي، يا ليلي، يا ليل»، وقد نستبدل الليل الأخيرة بالعين أحيانا، فنقول: «يا ليلي يا عيني»، ترى لماذا ارتبطت العين بالليل هنا؟ أهو تمني القدرة على الإبصار ليلا؟ أم أن ارتباط الليل بالعين كناية عن بقاء العين مفتوحة طيلة الليل غير قادرة على النوم وجدا وشوقا لوصل الحبيب؟

غنى طلال مداح ـ رحمه الله ـ «الليل ما يحلى إلا بسماره»، كما غنى جورج وسوف «يا ليل العاشقين»، وغنت فيروز «سكن الليل»، فالليل المظلوم هو وقت الراحة أيضا، وليس بالضرورة وقت للسهر والعناء لمجموعة من العشاق الأشقياء الذين سهّرهم الوجد والوله للحبيب.

ويقترن الليل بالنهار كي يستمد معناه، ولكن النهار يستمد معناه من الليل، فلولا الليل لما عرف النهار، وما كان لنور النهار معنى لولا الليل..

رأينا صحيفة النهار، ولم نر صحيفة لليل المظلوم، صحيح بأن هناك صحيفة للمساء، ولكن المساء ليس كالليل، فنقول مساء الخير في أول الليل، أو في منتصف النهار بعد أن تتجاوز الساعة الثانية عشرة ظهرا، لم لا يكون هناك صحيفة لليل، ولنسميها صحيفة «الليل»، فنحن اليوم نستطيع القراءة ليلا على أضواء الشموع أو الكهرباء أو الفوانيس.

وارتبط الليل المظلوم بالدسائس التي تحاك ليلا، فيقال «أمر دبر بليل»، وكان القادة الانقلابيون في عالمنا، وفي العالم الثالث عموما يخططون للانقلابات ليلا، من الطرائف أنه في بلد افريقي ـ تعددت الانقلابات فيه حتى أصبحت بمعدل كل شهر ـ يصحو من رفاق الانقلاب السابق من يذيع البلاغ رقم واحد، قبل أن يصحوا زملائه من النوم ويسبقوه بالانقلاب عليه.

والغزو ليلا في الماضي كان من علامات الشجاعة، فالمتنبي قال «الخيل والليل والبيداء تعرفني.. والسيف والرمح والقرطاس والقلم»، وارتبط الليل المسكين بنهاية الظلم والقهر وانبلاج «نهار» الحرية، فأبو القاسم الشابي قال إن الشعب إذا ما أراد الحياة يوما، «فلا بد لليل أن ينجلي»...

لم يكن اغتيال الصديق جبران تويني مؤامرة ليلية، بل كان جريمة دموية والشمس في رابعة النهار، وقبله تفجير موكب رفيق الحريري «جهارا نهارا»، وسمير قصير، ومي شدياق وجورج حاوي...إلخ.

في جنازة جبران تويني دعا أبوه غسان عند الدفن إلى دفن الأحقاد والخلاف، والتمسك بالنهار رمزا للحرية، ودعت ابنته المكلومة ـ نائلة ـ إلى إضاءة الظلمات بالأقلام الشريفة رماحا في وجه الدكتاتوريات العربية..

جرائم الاغتيال الدنيئة لم تعد تحتاج إلى الليل لتنفيذها، ولم يعد الظلام مطلبا أساسيا للخسائس والدسائس، أصبحت جزءا من حياتنا اليومية ـ في كل مكان ـ وبالأخص في لبنان.. يا إلهي! كم أنا حزين، لم أكن أدرك أن مقالتي هذه ستجرني إلى الاستنتاج بأن ليلنا ونهارنا واحد، لقد تساوى الليل برمزيته الظلامية، بنهارنا ورمزيته التنويرية، أصبح النهار والليل سيان، من يدري: قد نغني قريبا: يا نهاري، يا نهاري، يا عيني.. وقد نحول أمثالنا الليلية إلى أخرى نهارية، فنقول «أمر دبر بنهار»..

من يجبر مصابنا الكلل في قلم النهار، فلا أقلام لليل نستبدل بها أقلام النهار، بكلمات غسان وحفيدته نائلة نستنتج: «القلم الحر يرتبط بالتنوير والبصيرة، وليس بالنهار والإبصار».