عدو الجنس الناعم

TT

يتسم طابع الاحتفال بعيد الأضحى في مدن منطقة مكة المكرمة بالبساطة، إذ كان الناس في الماضي يشتغلون بأعمال الحج حتى لتوشك المدن أن تخلو من الرجال ولا يتبقى فيها سوى النساء والأطفال، وقد فرضت هذه الحالة ـ في الماضي ـ على النساء أن يخترعن أسلوبا خاصا لحماية أنفسهن، فكن يتجمعن ليلا في مجموعات كبيرة، وقد ارتدت كل واحدة منهن ثياب زوجها أو أبيها، حتى ليتوهم الغريب أن المدينة عامرة بالرجال، ويتورط من تسول له نفسه الاقتراب من أماكن التجمع، إذ ستنهال عليه النسوة بعصيهن، وهن ينشدن:

«يا قيسنا يا قيس.. الناس حجوا.. وأنت قاعد ليش».

هذا التجمع النسوي السنوي أوجد نوعا من الاحتفالية غدت مع الزمن لونا من ألوان التراث المحلي، له رقصاته وطقوسه وأهازيجه، وكانت الأهازيج في مجملها تدور حول حنين أولئك النسوة تجاه ذويهن الغائبين في الحج مثل:

سلام الله لمن قصد منى

يجعل زمانه دايم الهنا

ولنا صديق صحافي وأديب، من سوء حظه، أن دارته كانت بالقرب من مكان الاحتفال بالقيس، وكانت الصحف في الماضي تصدر في طبعة واحدة، تتم طباعتها في الثانية بعد منتصف الليل، وكان عائدا من عمله، بعد أن تم تسليم الصحيفة للطباعة، ولم يلق بالا لما يشاع عن تقاليد القيس، وكيف يتحول ذلك الجنس الناعم العطوف إلى جنس خشن عنيف، فمر من الجوار، ولم يتنبه إلا وعشرات العصي تنهال عليه، ففر هاربا في الدروب تتبعه عشرات الخطى بإنشادها الساخر الشامت الطريف:

«يا قيسنا يا قيس.. الناس حجوا وأنت قاعد ليش؟!».

لقد خلفت تلك الحادثة الدامية لدى صديقنا قناعة فلسفية بخرافة «الجنس الناعم»، إذ ظل يؤمن أن تلك التسمية تحمل خداعا لجنس الرجال الأبرياء الطيبين المسالمين، وأن ليس ثمة جنس ناعم «ولا يحزنون»، فكل هذه النعومة الظاهرة يمكن أن تذوب وتتلاشى لمجرد مرور رجل عابر سبيل، ولم يطل به الأمر كثيرا حتى طلق «أم العيال» بالثلاث، وظل سنوات طويلة أعزب حتى تلاشت من الذاكرة تلك الذكرى الأليمة، التي صنعت منه عدوا للمرأة وجنسها «الناعم العطوف».

حينما زرته صباح اليوم التالي في المستشفى، كانت أجزاء كثيرة من رأسه وجسده مغطاة بلفافات الشاش الأبيض، وقد انتظم أنينه في ما يشبه لحنا مسكونا بالشجن المر، فنظر إلي بعينين منكسرتين خلف لفافات الشاش وهو يقول: «أعرف أن الرجال يمكن أن تجرح في حروب رجالية، تظل تفخر بخوضها على الدوام، أما أن أكون جريح غارة نسائية، فالموت يا صديقي ولا شماتة الرجال»، وقد أثار ضحكي شجونه، فطلب من الممرضة إخراجي حالا من الغرفة، تلاحقني حبات الشيكولاته التي كنت قد اشتريتها هدية له.

[email protected]