من يصلح الصورة؟

TT

في إحدى حلقات المسلسل التلفزيوني الامريكي الشهير (الجناح الغربي)، الذي يركز على كيفية صناعة القرار داخل البيت الابيض الامريكي، من خلال استعراض فريق الرئيس للاعلام والمعلومات وموظفي البيت الابيض، نجد المتحدثة الاعلامية «سي جي»، في موقف حرج، فهي تلقت قبل دقيقة من بداية المؤتمر الصحفي اليومي، خبرا عن 17 فتاة لقين حتفهن احتراقا في مدرسة بالسعودية، بسبب منع الشرطة الدينية إنقاذهن قبل ان يرتدين حجابهن.

الاشارة كانت واضحة الى حادثة حريق مدرسة البنات في مكة في (11 مارس 2002) والتي اثارت حملة نقد واسعة في حينه لجهاز هيئة الامر والنهي عن المنكر (الشرطة الدينية). ودافع الجهاز عن نفسه ببطلان الاتهام له بأنه قد أعاق جهود الانقاذ، متهما الكتّاب الصحافيين بالافتراء.

«سي جي» البارعة في التخلص من إحراجات الصحافيين، والدفاع عن مواقف الادارة، لم تستشر احدا، وقابلت الصحافيين وهي محتقنة، وحينما طلب منها ابداء تعليقها الشخصي على الحادثة، قالت: هذا بلد يحارب النساء ويحرّم قيادتهن للسيارة، ويجعل الرجل يتزوج اكثر من امرأة... ثم سكتت برهة، واضافت مخاطبة الصحافي: تسألني تعليقي؟! أقول لكم: رغم هذا، فإن هذا البلد هو شريكنا في صناعة السلام والاستقرار.

هذا المشهد يعكس جانبا من صورتنا وصورة ثقافتنا في المرآة الغربية، صورة فيها لغط وغلط!

صورة جعلتني أتأمل في كيفية تناول مأساة جسر الجمرات الاخيرة، التي تدافع فيها مئات الحجيج اثناء رمي الجمرات على «الشيطان»، كما هو الوصف الشائع، حادثة تسببت بمقتل اكثر من 300 وجرح مئات، وأعيد السبب الى جهل بعض الحجاج بتعليمات وإرشادات السلامة، فيما أعاده آخرون الى «جمود» الفتوى الفقهية وتصميم الرأي السائد على عدم جواز رمي الجمرات قبل زوال الشمس من ايام التشريق الثلاثة مما تسبب في: تكدس اعداد ضخمة في مكان صغير في وقت واحد.. يعني أحسن وصفة لكارثة!

على كل حال، وبصرف النظرعن مسؤولية الاجهزة الحكومية المعنية، وكيف سيحقق في الموضوع، فهناك مسؤولية اخرى، وهي مسؤولية الرأي الفقهي، فلماذا الجمود عند آراء، حتى ولو كانت آراء سائدة في السابق، آراء تلحق ضررا واضحا بالناس الذين هم «عيال الله».

هذا هو السؤال الحقيقي، وهو سؤال يتجاوز مسألة الجمرات والحج ليلقي بظلاله على مجالات الحياة كلها بالنسبة للمسلمين: السياسية والاقتصادية والاجتماعية... الخ فكلها تتعطل فيها مصالح واضحة، وتحصل فيها أضرار بينة، لا يمكن ان تخطئها العين، الا العين المغشية ببخار الخداع ... ومع ذلك نجد عنادا للفتوى حتى تصل الامور الى درجة لا يمكن احتمال كلفتها ومشقتها.

المحزن أن هناك فقهاء ومؤسسات فتوى، تتعمد العدول عن الرأي الفقهي الميسر، بحجة ان التيسير الكثير هو «تمييع» للدين، والاغرب ان هناك من الجمهور من يعشق المفتي الاكثر تشددا!

فمثلا، في مسألتنا هذه، هناك من الفقهاء القدماء من قال، على خلاف رأي الجمهور، بجواز الرمي في اليوم الثاني من ايام التشريق (12 ذي الحجة) قبل الزوال ولا ينفر قبل الزوال. مثل ابي حنيفة، بينما تبنى آخرون، رأيا اكثر توسعا، وهو أنه يجوز أن يرمى في اليومين الثاني والثالث قبل الزوال، مثل الفقيه «الحنبلي» الشهير، ابي الوفاء بن عقيل،

والحنبلي الآخر ابن الجوزي، ومن المعاصرين الشيخ عبد الله آل محمود، مفتي قطر الراحل، والشيخ صالح البليهي، احد علماء السعودية، كما يذكر احد الباحثين.

هذا العدول، المتعمد، عن الآراء الفقهية الميسرة، يستحق التأمل كثيرا، فهل يشعر الفقيه احيانا أنه حينما يتشدد يصبح اكثر قبولا لدى الاخرين؟! ربما بعض «الضعفاء» من الفقهاء يكون كذلك، خصوصا اذا لم يكن فقيها حقيقيا. وكم اعجبتني عبارة، اظنها منسوبة لسفيان الثوري، وهو أحد علماء الحديث العراقيين من أهل القرن الثاني الهجري، يقول فيها: «التشدد يحسنه كل احد، انما الحكمة رخصة من فقيه»!

الملاحظ في سيرنا الفقهي والفكري، اننا نسير الى الوراء! فإذا كان المسلمون الاوائل اكثر «عفوية» في التعاطي مع نصوص دينهم، واأقل تأزما بسبب عدم وجود من «يفلق» رؤوسهم بالحديث عن «الغزو الفكري»، و«ثوابتنا»، و«هويتنا»... الخ. هذه الكلمات التي تُحاصر بها كل جهود حقيقية من اجل إحداث «تهوية» في الغرف المغلقة لإدخال الهواء، والسماح لعرائس الضوء وطيور الريح ان تستلقي في مجالسنا.

شخصيا، كلما وجدت تشددا لأحدهم هنا او هناك، أهرب الى الماضي لأعثر على كوة الخلاص، وليس الى المستقبل، وهذه هي المفارقة، فكأن مستقبلنا مستودع في ماضينا!

الآن، أليست جماعات الاسلام السياسي تملأ الدنيا ضجيجا عن وجوب إقامة الخلافة، وان كل الكيانات السياسية القائمة هي حالات «شاذة» عن المتن الاسلامي الصحيح وهو دولة الخلافة الواحدة للجميع؟

لكن، وبخلاف هذا الجمود التصوري لهؤلاء، تجد في تراثنا التاريخي، خصوصا الفقه السياسي منه، استجابات مذهلة لمتغيرات الزمان والمكان، على قلة وبساطة هذه المتغيرات قياسا بمتغيرات زماننا، والتي لا تجد استجابات فقهية مماثلة لدى فقهاء او شيوخ عصرنا! وخير ما يفعله كثير منهم هو البحث عن «تكييف» فقهي قديم، ومن ثم إدراج «النازلة» الجديدة في اهاب النازلة القديمة، «وكأنك يابو زيد ما غزيت»!

ومع ذلك حتى هذا الجانب الاخير، أعني النشاط في تكييف النوازل الجديدة على الاصول والقواعد الفقهية القديمة، نجده نشاطا شحيحا ونادرا، ولا يقوم به الا ثلة قليلة من الفقهاء او مؤسسات الفتوى.

وحتى نرى الى اي درجة كانت الاستجابات الفقهية في الموضوع السياسي حية وخصبة، نطالع كيف عالج الفقهاء الاوائل مسألة تعدد الخلفاء والأئمة في وقت واحد، مع ان الاتجاه الفقهي المتوارث كان وجوب اتحاد الامة في الخليفة، واعتبار ان منصب الامامة العظمى (الخلافة) هو موقع ديني ودنيوي.

كان الفقيه الشافعي ابو المعالي الجويني (توفي 1085 ـ 478هـ) قد تعرض في كتابه «غياث الأمم في التياث الظلم» الى معالجة هذه المسائل، وهو الذي عاصر لحظات تحول الخلافة العباسية الى مجرد سلطة رمزية في بغداد، بينما كانت الدولة الحقيقية هي لسلاطين مثل البويهيين في العراق وايران، والفاطميين في مصر، او الاتابك في الشام وجزيرتها ... وغيرهم.

نجده يجوّز تعدد الائمة، ويقول: «ذهب اصحابنا إلى منع عقد الامامة لشخصين في طرفي العالم.. والذي عندي فيه أن عقد الامامة لشخصين في صقع واحد، متضايق الخطط والمخالف غير جائز. وقد حصل الاجماع عليه. وأما إذا بعد المدى، وتخلل بين الامامين شسوع النوى، فللاحتمال في ذلك مجال، وهو خارج عن القواطع».

وواضح هنا إحساس الجويني بالزمن والظرف الضخم الذي لا تجدي فيه «إجماعات أصحابنا»، ولم تعد صالحة لزمن وظرف آخر. على أنه لم يكن ثمة اجماع حقيقي اصلا.

هذا عن الجويني، بينما فرقة «الكرامية»، وهي احدى الفرق الكلامية المصنفة على ملاك السنة، كانت تقول بجواز: «تعدد الائمة في حالة القطرين»، وهو ما لم يتفرّدوا به فقد قالت به فرقة الجارودية من الزيدية، كما نسبه اليهم الشهرستاني وفق الصياغة: «ولو كانا في قطرين (اي الامامين) انفرد كل واحد منهما بقطره، يكون واجب الطاعة في قومه...».

هذا ما قاله البعض من القدماء، تفاعلا مع ظروف وقتهم، التي تشققت فيها الدولة، وغلب فيها الواقع على المثال، لكن تجد من اهل وقتنا من لايزال صامدا على المثال الفقهي السياسي القديم، حتى من غير حركيي الاسلام السياسي الذين جعلوا استعادة الخلافة جوهر ايدلوجيتهم السياسية، بل تجد هذا الجمود من فقهاء قد نقول انهم «محترفون»، فهذا الشيخ وهبة الزحيلي، عميد كلية الشريعة في دمشق يقول: «لا يجوز اقامة دولتين أو اكثر في الإسلام». كما ينقل عنه الباحث محمد الحسيني.

حسنا: هل السياسة وتشكيلاتها والدول واحوالها، شأن ديني ام دنيوي، حتى نقول يجوز ولا يجوز؟!

مرة اخرى «نعود !» للجويني، إذ يقول: «معظم مسائل الإمامة عرّية عن مسالك القطع، خليّة من مدارك اليقين»، أي ان شأن السياسة تدبير الدنيا في الدرجة الاولى، ولا يوجد فيها ثابت ملزم في تفاصيلها و«اجتهاداتها».

هذا هو الحال، أولا، وهكذا اصبح الحال تاليا، ونحن في المنتصف عالقون في الضباب...

ربما يكون الغرب «جاهلا» بنا، وقد يعاتبا عن غير حق، وبمحاولة لإلزامنا بنموذجه ومعاييره، كما في هجوم «سي جي»، المتحدثة الاعلامية باسم الرئيس الامريكي في مسلسل (الجناح الغربي) الذي انتقدت فيه تعدد الزوجات في السعودية، من دون ان تلمّ بجذور المسألة اجتماعيا وثقافيا، بصرف النظر عما نحب وما لا نحب، ولكن ورغم كل هذا النقص والخلل في النقد الغربي لنا، إنما نحن فعلا من نتسبب بإلحاق الضرر بصورتنا، من دون ان يكون لذلك داع او موجب، عدم الفتوى برمي الجمار قبل الزوال مثال على ما أعنيه هنا، وأكبر من هذا، تجمد الاسلاميين ومعهم من معهم من القفهاء على صورة الدولة الاسلامية المثالية «الواحدة»، وهو مثال آخر اشد ضررا واكثر تدميرا..

نحن من يجب عليه ان يصلح الخلل، ويعدل الصورة، لا الآخرون، فالآخرون مجرد ظلال عابرة، ونحن الحقيقة.

[email protected]