ما بعد جابر الأحمد: الثابت والمتغير في السياسة الكويتية

TT

كتب العلامة شهاب الدين أحمد بن أبي الربيع للخليفة المعتصم العباسي أن الحكم يصلح «إما بملك حكيم أو بملك يلتمس الحكمة». كما كتب أن أركان الملك أربعة: «الملك، والرعية، والعدل، والتدبير»، وأن هذا الأخير يقوم على «حراسة الرعية.. وعمارة البلدان.. وتدبير الجند .. وتدبير الأموال». أما المال «فهو قوة الملك وعليه الاعتماد.. ويحتاج (الملك) إلى الحث على جمعه ونموه.. وأن يؤاخذ الرعية على التقصير في اكتسابه».

منذ أن ضمَّن العلامة ابن أبي الربيع هذه المبادئ كتابه «سلوك المالك في تدبير الممالك»، فإنه لا يوجد من يقول إن هناك من أضاف شيئا جوهريا إلى هذه المبادئ في التطبيقات السياسية لأمة المسلمين سواء بيننا في جزيرة العرب ـ مهد الإسلام ـ أم خارجها. ومن ثم فهذه كلها ـ وكما هو معروف ـ مبادئ ثابتة في الفكر السياسي المسلم وغير المسلم. أي أن وظائف الدولة الخليجية الحديثة، سواء الكويت أو غير الكويت، ستكون هي هي، ومن ثم فالسؤال هو ما الذي سيتغير في عهد من يخلف أمير القلوب جابر الاحمد في حكم الكويت؟ وإذا سلمنا بأنه سيكون هناك «متغير» فهل هذا المتغير سيكون في وظيفة الدولة أم في أسلوب تنفيذ وظيفة الدولة ؟ أي هل المتغير هو الهدف الاستراتيجي الأعلى، أم التنفيذ..

وفي دراسة «جسر 21 : العبور إلى قرن جديد» (1998 ـ 1999)، و«الرؤية الاستراتيجية لدولة الكويت» (1999 ـ 2000) التي كان لي شرف كتابتهما لكل من الأسرة الحاكمة ولحكومة الكويت على التوالي، أعطي موضوع «القيادة» أهمية مركزية ليس فقط للاتفاق على رؤية استراتيجية لكويت القرن الحادي والعشرين، وإنما لتنفيذ تلك الرؤية الاستراتيجية بأقصى معدل للاتفاق بين شرائح المجتمع الكويتي ومراكز الضغط والنفوذ فيه، وبأقل معدل للتناقضات (أي بأقل تأثير سلبي على بنية المجتمع الكويتي الاجتماعية، وتركيبته السياسية، ومن ثم بدون تهديد أمنه الوطني). وإذا كنا حينئذ قد أخذنا بعين الاعتبار وعلى مدى عامين، أن الخيارات الاقتصادية الاستراتيجية لتعزيز الأهمية الاستراتيجية للكويت ولقدراته التفاوضية ولنفوذه في محيطيه الإقليمي والدولي كانت قد دخلت مرحلة التحات erosion، فإن ذلك لم يسقنا إلا إلى الاستنتاج بأن القفزة المطلوبة إلى الأمام للخروج من المأزق السياسي / الأمني الذي أوقعتنا تداعيات المنطقة فيه، لا بد أن تكون فعلا قفزة استراتيجية. وباختصار فإن «المتغير» الذي رأيناه متاحا لنا، وما زال، هو قلب قطعة النقد flip the coin ـ كما يقولون ـ لتصبح في صالحنا. وبعبارة أخرى فإن هذا يعني زيادة الأهمية الاستراتيجية للكويت بخلق وظائف جديدة للدولة تتجاوز دورها كمنتج رئيسي في سوق النفط العالمية. ومن حسن الحظ أن الظروف الإقليمية لم تستدع منا أن نقلب قطعة النفط. فمنذ مؤتمر قمة بيروت في مارس 2002 الذي وقفت فيه كل الدول العربية ضد استخدام القوة لإزاحة نظام صدام حسين، فإن كل الدول التي تشكل مصادر تهديد لنا لعبت أدوارها بكل رعونة (وآخرها مؤتمر الرئيس الإيراني بالأمس الأول). وبقدرة قادر عليم أصبحت جارتان تهددان الأمن الوطني الكويتي بصورة حادة ومباشرة على كل صعيد، تمثلان تهديدا حادا ومباشرا للدولة الأعظم في كوكب الأرض.

إذن هل هناك «متغير» آخر مطلوب من أمير الكويت الحالي، أو أي أمير للكويت في المستقبل. الإجابة هي نعم. والمطلوب هو، كما أشار إبن أبي الربيع «التدبير»، أي كما يقولون management. إن ما ميز قائدنا الراحل أنه شغل بـ«التدبر» أي التخطيط الاستراتيجي، عن «التدبير» الذي تركه لنا. وأي نجاح للتخطيط الاستراتيجي فإنه يعزى له، أما أي فشل فنحن مسؤولون عنه لأننا بصورة أو بأخرى لم نجد التنفيذ على مختلف المستويات، وانشغلنا بالمسار السياسي political process عن هدف تحقيق الفاعلية السياسية political efficacy لنظامنا السياسي.

السؤال الآن هو: هل نستطيع أن نتقاعس مرة أحرى ونترك أنفسنا في مهب التغيرات الاستراتيجية التي تعصف بالنظام الإقليمي، ثم نأمل بأن ننجو بجلدنا أيضا ومرة أخرى؟ الجواب هو أننا لا نستطيع، لأن التغيرات هذه المرة هائلة وتتطلب منا التفاعل معها على جبهات عدة داخلية وخارجية. ثم أن «تدبر» جابر الأحمد خلق لنا هامشا ماليا ودبلوماسيا حمانا من سيئات أعمالنا، أما اليوم فليس هنالك من شبيه لهذا الهامش إلا إذا أجدنا «التدبير»، والمهم في ما أقول أنه لا يوجد عاقل في النخبة الحاكمة الكويتية يقول بعكس ذلك. ومن ثم فإن سؤالي الأخير هو: إذا كان الأمر كذلك فهل يهم من يعتلي سدة الحكم اليوم أو في المستقبل؟ لا أظن. المهم هو أن يمارس وبحنكة وحزم مهمة «تطويع الإرادات»، أي السياسة. وفي هذا الشأن فلقد كان منح المرأة حقوقها السياسية أول اختبار لنجاح حكومة جابر الأحمد في تطويع الإرادات، وسيكون تمرير قانون بشأن فتح امتياز استغلال حقول نفط الشمال الاختبار التالي. وكل ذلك صعودا إلى الاختبار الأصعب وهو تجاوز أزمة الملف النووي الإيراني بصورة تضيق من التهديد للأمن الوطني لدول مجلس التعاون الخليجي، من أجل أن نتفرغ أخيرا لمهمة تنمية الإنسان الخليجي (عربيا وفارسيا) خاصة النساء والشباب.

من الملحوظ أخيرا في ما اكتنف شيوع خبر وفاة أميرنا، رحمه الله، هو كثرة النساء اللواتي احتشدن لمشاهدة جثمانه يمر إلى مثواه للمرة الأخيرة، ثم الاستخدام المكثف للوسائط المتعددة في الهواتف النقالة إما للحديث حول هذا الحدث الجلل، أو لتوثيقه بالصورة والصوت. وإذا كانت هنالك من إشارات لصانع القرار السياسي في كويت ما بعد الغد والمستقبل هو أنه إن لم ينجح في تطويع إرادات نخب اليوم السياسية (وجلها رجالية كهلة)، فإن ملاذه لا شك سيكون بين النساء والشباب. وبإصراره على الحصول على موافقة مجلس الأمة على قانون الحقوق السياسية للمرأة يكون جابر الأحمد قد أدى آخر خطوات «التدبر» لتحقيق الفاعلية للنظام السياسي لكويت الغد.

رحم الله جابر الأحمد، الوالي الحكيم، الذي التمس دائما الحكمة، وأثابه تعالى عن حسن تدبره لأمورنا حسن الثواب.

*كاتب كويتي ورئيس مركز الكويت للدراسات الاستراتيجية