إلا الهوان على الناس!

TT

ليس أقسى على النفس من أن تشعر بالهوان.. أي أن تهون على نفسك وعلى الناس. أي بأن تكون شيئا ضئيلا.. تصغر حتى تصبح لا شيء!

وعندما خرج الرسول، عليه الصلاة والسلام، من الطائف، كان دعاؤه: اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس..

والشاعر يقول:

عرضنا أنفسنا عزت علينا

وما رخصت فاستباح بها الهوان

ولو أنا منعناها لعزت

ولكن كل معروض مهان!

وعندما كانت أم كلثوم تجمع التبرعات من الذهب والفضة والماس، للمساعدة في المجهود الحربي، طلبت مني عبارة أو كلمة لكي تجعلها شعارا لمجهودها.. أو لتضعها على خطابات تبعث بها إلى المواطنين. وجاءتها اقتراحات كثيرة، فأعجبها اقتراحي. فقد اخترت لها بعض بيت من الشعر تغنيه هي ليلا ونهارا. الشعار هو «نفنى ولا نهون»، وهو جزء من نصف بيت: نفنى ولا نهون إنا فدائيون!

نختار الموت ولا نختار أن نهون على الناس.. لا وزن ولا قيمة ولا أمل لنا أو فينا.. فالموت أفضل وأرحم من الهوان! قالت لي أم كلثوم، إنها ذهبت مع والدها إلى قصر أحد الباشوات. والباشا يتكلم ويقول ويحكم على المطربين وعلى الشعراء. وكان في حكمه قاسيا. ولكن الكلام يدور بين والدها والباشا، ولا أحد ينظر إليها أو يتوقع أن تفتح فمها، مع أن اللقاء بهدف دعوة أم كلثوم التي تفتح فمها بالغناء الجميل.

وشعرت أم كلثوم بالحرج. ولكن في مثل سنها وموقعها الصغير في بداية حياتها، يجعل من الصعب عليها أن تقول أي شيء.. فهي دون ذلك كثيرا. والنظرات تتخطاها ذهابا وإيابا كأنها ليست موجودة .. كأنها شبح.. وحاولت أن تقول فلم تستطع..

ونهضت أم كلثوم غاضبة وكانت لها حقيبة صغيرة، فسحبتها ووقفت تلتفت إلى الباشا ووالدها بأنها سوف تخرج. والتفت الباشا ويسأل والدها: إلى أين يا ثومه.. فقالت أم كلثوم بسرعة.. أبحث عن سلة مهمات. لماذا؟ لكي أضع فيها رأسي وأقول رأيي..

وضحك الباشا وأبوها. وكان ذلك أول رد فعلي ورد اعتبار واعتراف بأنها موجودة!