واشنطن ودفع الشعب الفلسطيني نحو المأزق المستحيل

TT

كيف نفسر الحملة الأميركية ـ الغربية ضد نجاح حركة حماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية؟

إن الجواب يكمن في كلمة واحدة: إسرائيل. إسرائيل هي القضية المركزية في الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط. لا نقول ذلك تزمتا، ولا حماسا وطنيا، ولا تعبيرا عن موقف قومي عربي يرى في إسرائيل أكبر تهديد للوحدة العربية. نقوله كموقف سياسي عملي واقعي نعيش أحداثه يوميا.

إسرائيل هي القوة العسكرية الأكبر في الشرق الأوسط، وهي أرخص قاعدة أميركية من حيث الكلفة حسب قول مناحيم بيغن رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، وهو قال ذلك ضاغطا على الولايات المتحدة كي تقدم لإسرائيل مساعدات أكبر، فقوة إسرائيل تلعب دورها في لجم قيام أي تغير عربي ضد مصالح الولايات المتحدة، وهي لعبت سابقا وتلعب الآن، دور الضامن للأمن الاستراتيجي الأميركي في المنطقة، مرة عبر الكماشة الإسرائيلية ــ الايرانية، ومرة عبر الكماشة الإسرائيلية ــ التركية، واستمر ذلك عقودا أربعة، من 1948 وحتى العام 1990، وقد احتاج الأمر إلى سقوط الاتحاد السوفياتي حتى تصل هذه السياسة إلى ذروتها.

أمكن بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وولادة النظام العالمي الجديد، أن تتقدم الولايات المتحدة نحو عقد مؤتمر مدريد عام 1991، وكان التصور الأميركي يتطلع إلى ما يلي:

1 ـ تعترف الدول العربية بإسرائيل وتوقع معها معاهدات سلام.

2 ـ يتم تحت شعار التطبيع إدماج إسرائيل في اقتصاد المنطقة العربية.

3 ـ تدخل الرساميل الأميركية عبر إسرائيل إلى المنطقة، وتصبح إسرائيل مسيطرة على المشاريع الاقتصادية الكبرى، من خلال ما يسمى اقتصاد السوق.

4 ـ تتأمن السيطرة الاقتصادية الأميركية على المنطقة، وتكون إسرائيل هي حارسة هذه السيطرة. وتوفر لها قوتها العسكرية أداة تنفيذية مناسبة.

وكان التصور الأميركي ــ الإسرائيلي أن اتفاقات اوسلو تشكل المدخل الأساسي لهذا المخطط الكبير، باعتبارها العنوان الفلسطيني الذي لا بد منه من أجل التعامل العربي مع إسرائيل. وشكلت اتفاقات اوسلو وتنازلاتها (1993 ـ 2000) حالة غريبة من نوعها، أغرت إسرائيل بأنها أصبحت على أبواب تحقيق حلمها الكبير. ولكن عام 2000 شهد انعقاد قمة كامب ديفيد التي كان يفترض فيها أن تشكل ذروة تنازلات اتفاق اوسلو، ولكن المفاوض الفلسطيني ياسر عرفات توقف عند هذه النقطة بالذات. قال ببساطة إن موضوعات الحل النهائي ليست عرضة للمساومات على غرار موضوعات اتفاق اوسلو المرحلية، وفشلت بذلك مفاوضات كامب ديفيد، وتوقفت عجلة المخطط الأميركي ـ الإسرائيلي.

وبدأت بعد ذلك مرحلة المواجهة. أطلق الشعب الفلسطيني انتفاضته الثانية مطالبا بحقوقه الأساسية (حق تقرير المصير، وانسحاب الاحتلال الإسرائيلي، وإزالة المستوطنات، وعودة القدس، وإنشاء الدولة الفلسطينية، وحق لاجئي 1948 بالعودة إلى وطنهم). وشنت إسرائيل حربها ضد السلطة الفلسطينية، فاحتلت أراضي الحكم الذاتي، ودمرت أجهزة السلطة، وبدأت حرب الاغتيالات والاعتقالات وتدمير البيوت وقطع أشجار الزيتون ونشر المستوطنات، لتكسر إرادة النضال لدى الشعب الفلسطيني، وقامت في سياق ذلك بمحاصرة ياسر عرفات وقتله، وهو الذي كانت تعتبره العقبة الأساسية أمام السلام.

جاء محمود عباس إلى السلطة (بالانتخابات) حاملا معه إرث اوسلو بالكامل، ومعلنا أنه ضد عسكرة الانتفاضة، وأنجز هدنة مع الفصائل المقاتلة رفضت إسرائيل الالتزام بها، وكان الرد عليه مزيدا من القتل والتدمير، بل وتم الذهاب إلى أبعد من ذلك: إعلان إسرائيل أنها لن تفاوض، وأنها ستفرض الحل من طرف واحد، وبنت جدار العزل، وعبرت عن تطلعها لضم القدس ونصف الضفة الغربية إليها. وجرى كل ذلك وسط تهليل أميركي ــ غربي وصل إلى حد الإشادة برجل السلام آرييل شارون (!!!).

هنا جرت الانتخابات التشريعية الفلسطينية. تخلى الناخب الفلسطيني عن اختياره لحركة فتح (بعد تجربة دامت 13 عاما)، واختار حركة حماس بدلا منها. جرب تكتيك الاعتدال مع إسرائيل فجنى الاحتلال والقتل والتدمير، فقرر الاتجاه لتجريب الأسلوب الآخر، أسلوب حركة حماس. وهنا وقع الزلزال وهبت رياح تسونامي.

أين وقع الزلزال؟ ومن أين هبت الأمواج؟ من الولايات المتحدة ومن الغرب. فردة الفعل على نجاح حماس كانت هي الزلزال وهي أمواج تسونامي. قالوا إن حماس هي الإرهاب وتناسوا مبدأ حق الشعوب في مقاومة الاحتلال. وقالوا إن حماس هي «القاعدة» وتناسوا أن لا وجود لـ «القاعدة» فوق أرض فلسطين. وقالوا إن حماس تريد تدمير إسرائيل وتناسوا من الذي يدمر فعليا على الأرض. وكانت هذه هي موجة تسونامي الأولى. ثم هبت موجة تسونامي الثانية معلنة أن المساعدات ستتوقف، وأن الشعب الفلسطيني كله سيعاقب على اختياره هذا، ولم ينسوا أن يشيدوا بالديمقراطية الفلسطينية وسلامتها ونزاهتها.

وتقدمت حماس وسط هدير الأمواج لتعلن توجهاتها. قالت: إنها تريد مشاركة سياسية مع الجميع وترفض الانفراد بالسلطة. وقالت إنها لا تريد إنشاء مجتمع إسلامي. وقالت إنها ستطرح إنشاء جيش فلسطيني تندمج فيه قوات حركة حماس. وقالت إنها تريد دولة فلسطينية عاصمتها القدس. وقالت إنها ليست عدوة لأميركا. وقالت إنها تدرك الواقع والاتفاقات وأنها ستلتزم إزاءها سياسة مسؤولة. وقد كانت هذه التوجهات برنامج سلام تفاوضي بامتياز، برنامج يوفر نقطتين: وقف سياسة التنازلات أمام إسرائيل، والوعد بإدارة نظيفة شفافة لإدارات السلطة الفلسطينية. ولكن المفاجأة كانت حين رفض الغرب الالتفات إلى كل هذه التوجهات المعلنة، والتركيز على طلب واحد يقول بضرورة إعلان حماس اعترافها بحق إسرائيل في الوجود. لماذا؟ لأن إسرائيل هي النقطة المركزية في الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط، وهي تريد فقط من يقبل بإملاءاتها، وترفض الاعتراف بأي طرف يريد التمرد على هذه الإملاءات. وكأن واشنطن أدركت في لحظة واحدة، أن مخططها المستمر على مدى عقدين من الزمن، لجعل إسرائيل القوة المهيمنة في الشرق الأوسط، قد تعرض إلى مس جوهري به، وهكذا بتنا نشهد يوميا، إشادة أميركية ضخمة بالانجاز الديمقراطي الهائل الذي حققه الفلسطينيون، وهجمة أميركية ضخمة ضد الذين حققوا هذا الإنجاز الديمقراطي، والذين باتوا معرضين للعقاب الجماعي، وللتجويع والإذلال، حتى قال أحدهم «إن الديمقراطية التي لا تنتج تبعية للغرب ستصبح عند الغرب إرهابا».

إن المعزوفة الأميركية ــ الغربية التي باتت شائعة صباح مساء، تكرر ما يلي: الاعتراف بإسرائيل، والتنازل عن الحق في مقاومة الاحتلال، والذهاب على أساس ذلك إلى المفاوضات، حيث لا مفر من قبول الإملاءات الإسرائيلية. وبينما توفر هذه المعزوفة لإسرائيل كل ما تريد، فإنها تستنكف عن ذكر أي شيء لا بد أن يناله الفلسطينيون، فالمعزوفة الأميركية ــ الغربية تستنكف عن أية إدانة للاحتلال الإسرائيلي، أو حتى عن المطالبة بضرورة إنهائه كمبدأ. وهي تستنكف عن أي إشارة إلى ضرورة الانسحاب الإسرائيلي من كل الأراضي التي احتلتها عام 1967، وتترك ذلك عرضة للمفاوضات، وهي حتى لا تستنكر جرائم الاغتيال وتدمير البيوت وإتلاف الأراضي الزراعية ومحاصرة المدن ونثر الحواجز في الطرقات. ولو أن المعزوفة الأميركية ــ الغربية تفعل ذلك، لبدا موقفها متوازنا على الأقل، ولكن لا أحد كما يبدو يهتم لهذا الأمر، ولا أحد يلتفت إلى ما يثيره هذا الانحياز المجحف من غضب متنام لدى الشارع الفلسطيني والعربي.

ثمة أصوات شريفة ارتفعت من الرياض وموسكو، ترفض مبدأ حجب المساعدات عن الشعب الفلسطيني. وثمة أصوات جريئة ارتفعت من دمشق والجزائر تطالب بالاعتراف بحق حماس في ممارسة الحكم. ولكننا نشهد بالمقابل دبلوماسية عربية عرجاء، تنبع من هذه العاصمة أو تلك، تنحاز إلى الموقف الأميركي والغربي، وتحاول أن تستر نفسها بكلمات مطاطة، «توافق على المطالب الأميركية وترفض اعتبارها كشروط»، بينما يدرك أصغر تلاميذ السياسة، أنه لا يمكن إدارة شؤون الشعوب بالكلمات المتقاطعة.

ثمة غضب شعبي فلسطيني أفرز نجاح حماس في صناديق الاقتراع. وثمة غضب شعبي عربي ينمو مع نمو الحملة ضد خيار الشعب الفلسطيني الديمقراطي، وهو غضب حري بأن يحذره الجميع.