زلزال الكاريكاتير.. جراحة دقيقة في جسد الحدث

TT

في محطة «جليم» لترام الرمل في الاسكندرية قبل 47 عاما، صعدت شابة جميلة في العشرينات، ترتدي فستانا إلى منتصف ساقيها وفجأة، نزلت بصفعة مدوية على وجه مراهق ضخم الجسم: «مغفل أبيح (تعنى قليل الحياء). «ويسألها السائق: «انادي الشاويش يا هانم؟» بإيماءة الى رجل بوليس يقف على محطة مظلوم باشا، التالية. قالت: «مرسي يا اسطى»، وشكرت السائق بصوت مهذب، «مفيش لزوم للشوشرة». ويقفز الولد المتورم الوجه هاربا بأذيال العار، بينما سحبت «المدموزيل» الباب الزجاجي الجرار، وجلست في هدوء تتصفح مجلة روزاليوسف، منبر الكاريكاتير المصري الأصيل ايامها، وكأن شيئا لم يكن.

«برافو… ربنا زاد جمالك بكمال عقلك»، علقت امي رحمها الله.

تذكرت الواقعة بمناسبة الضرر الجسيم الذي الحقه غوغاء حارقي السفارات ومكاتب منظمات الإغاثة بسمعة المسلمين حول العالم.

فرسام كاريكاتير «ثقيل الدم» جاهل بخصوصيات الثقافات الأخرى، كان يمكن «صفعه» في حدود القانون بهدوء ابنة الإسكندرية العاقلة. كان يمكن لتلميذة دانماركية مسلمة قذفه ببيضة فاسدة او فطيرة كستردة (وسيلة احتجاج ساخرة ومقبولة كحرية تعبير شرط الا تلحق اذى بدنيا)، او نشر صورته معدلة إلكترونيا (كاستبدال رأسه بمقعد مرحاض) في صحيفة دانماركية منافسة، او شكواه لاتحاد الصحافيين الدنماركيين.

ويصعب ان يكون عامة المسلمين (خارج الدنمارك) شاهدوا كاريكاتير نشر في سبتمبر الماضي، ولذا، فمن هو المسؤول عن «الشوشرة» العالمية والعنف واضطرار وسائل الاعلام لتغطيتها بضرورة تحريرية تطلبت بث الرسوم، لاعلام المتلقي بتفاصيلها، مما جعل الملايين يشاهدونها حول العالم (بدلا من جمهور محدود في كوبنهاجن)؟

وكشف التحقيق، صحافيا، عن حملة منظمة نسقها أناس , ومنهم , من فعل ذلك لحاجة في نفس يعقوب ، بغرض تقوية وضعهم السياسي الضعيف ولمآرب اخرى. ويصعب على بعض المسلمين الواقعين في قبضة استبداد الديكتاتوريات تفهم حقائق الحياة خارج حدودهم، واهمها:

* الحكومات المنتخبة ديموقراطيا، كالدنماركية والفرنسية، لا سلطان لها على ما تنشره الصحف ويرفض الصحافي هنا في الغرب _ وانا اولهم ـ أي توجيه من مسؤول، ويدفعنا هذا، كصحافيين، الى اتخاذ موقف معاكس لتأكيد استقلاليتنا.

* تقديسنا كصحافيين في الغرب لمبدأ حرية التعبير، يشاركنا فيه المثقفون والفلاسفة كحق مقدس، ضحى اجدادهم بحياتهم لانتزاعه من الكنيسة وحكام مستبدين ـ كالفيلسوف الأسكتلندي دافيد هيوم ضد نظام غير مستنير يشبه الطالبان حكم البلاد في 1750.

* الرأي العام يتعاطف مع الطرف الأضعف، ففور اصدار اية الله الخميني فتوى بقتل سلمان رشدي عام 1989، سارع منتقدوه للدفاع عنه، بمن فيهم ادباء مسلمون رفضوا اعتماد الفتاوى والقتل اسلوبا للنقد الأدبي. وهذا الأسبوع، بمجرد احراق سفارات الدنمارك، وفور انتقاد ساسة اوروبيين للصحيفة الدنماركية، كان من الطبيعي تكاتف الليبراليين دفاعا عن حرية التعبير، وأسرع الصحافيون بإعادة طبع الرسوم، كرد عنيد على انتهازية ساستهم، وهو امر لا علاقة له بموقفهم من المسلمين.

* الحدود الشرعية لعقيدة دينية او قانون، لا تعني شيئا لغير المؤمن بها او المقيمين اداريا خارج سلطته؛ ومن ثم فإن تعاليم الهندوسية، لا تلزم مسيحياً او يهودياً، والعكس صحيح، الا اذا كان هناك قانون اجازه برلمان منتخب ينظم هذا الأمر. ولذا تقع المسؤولية على الصحافيين وصانعي الرأي العام، والمدارس في البلدان الإسلامية لإخفاقهم ـ عمدا او اهمالا ـ عن شرح هذه الحقائق للمسلمين. وللأسف ينساق صحافيون ومثقفون الى ديماجوجية تفسير أي حادثة على انها «مؤامرة صليبية ضد المسلمين» فتتخذ الاحتجاجات طابع العنف المخيف ويسقط الضحايا. حفنة «ائمة» مجهولي المؤهلات الفقهية، ولا مصدر لشرعية تمثيلهم لمسلمي الدنمارك، نسقوا مع «جهات مجهولة» لتدبير الحملة وطبع الاف «الملفات» برسوم بعضها لم ينشر (ولم نعثر على مسلم واحد تلقاها بالبريد كما يدعون)، طافوا ببلاد المسلمين من جبال اطلس حتى الفلبين ـ فما هو مصدر تمويل الحملة ومصاريف السفر والإقامة وطبع الملصقات «ورشوة» اعلاميين؟

وتدنت سمعة احد زعماء الجالية الاسلامية في الدنمارك لدى مسلمي الدنمارك، بعد ضبطه يتحدث بلسانين. يدين مقاطعة بضائع بلاده في التلفزيون الدنماركي؛ بينما يبدي سعادته للمقاطعة ويدعو لتوسعها، باللغة العربية في محطة الجزيرة.

وتقول مصادر مخابرات اوروبية ( وبلد اسلامي افريقي) انها حذرت بلدانا اسلامية من خطة يدبرها «ناشطون دنماركيون» مع «منظمات سرية» يحتمل اختراقها من القاعدة»، تهدف لصدام بين الغرب والمسلمين، وهو من اهداف زعماء الإرهاب، اسامة بن لادن وايمن الظواهري.

وبدلا من ان تأمر الحكومات الإسلامية مخابراتها بالتحقيق في مصادر تمويل حملة «ائمة كوبنهاجن» وصلاتهم والإخوان والطالبان وجماعات تخريب اخرى تعمل في الظلام، استغل بعضها الأزمة لصالح اجندتهم السياسية.

فكيف سمحت سلطات الأمن في عاصمة لا يستطيع الرجل فيها تقبيل زوجته دون اذن المخابرات والحزب الحاكم، لمظاهرة ان تحرق سفارة الدنمارك ؟

هل يرسل النظام القومجي اشارة الى واشنطن بان البديل له سيكون المسلمين حارقي السفارات؟

اما فحوى رسالة مهاجمي مكاتب الاتحاد الأوروبي في غزة _ الجهة الوحيدة المانحة حاليا للدعم المالي ـ فهي: الفلسطينيون غير مؤهلين لحكم انفسهم ولا يريدون دعما.

ودخلت حكومات اخرى في مزايدة مع الإخوان والحركات السلفية، لتثبت انها أكثر اسلاما؛ ليس بالدعوة الى مكارم الأخلاق، بل بالاحتجاجات غير العقلانية.

وحتى الجامعة العربية، ويا ليتها تنشر ما يبرهن على تمثيلها للشعوب الإسلامية، اصبحت فجأة أكثر علما ودراية بالدين من مشيخة الأزهر، مثلما ظهر من تشدد أمينها العام الدكتور عمرو موسى، في البي بي سي بدلا من ان تكون جسرا دبلوماسيا بين مسلمي الشرق والغرب. اما حكومة حزب العمال الجديد، بزعامة توني بلير في بريطانيا، فنافست الحكومات العربية انتهازية وترددا. فبدلا من التأكيد على مبادئ حرية التعبير واحترام القانون، استغلت الأزمة لأهداف حزبية ضيقة.

فلماذا، تساءلت اغلبية مسلمي بريطانيا، تقاعس البوليس عن التدخل لمنع المتطرفين من حزب التحرير، وجماعة المهاجرين، من اختطاف مظاهرة احتجاج، وحملهم لافتات تدعوا علنا لسفك دماء غير المسلمين ولتفجير القنابل في المترو؟

ولم يعترض البوليس، طريق الشاب عمر الخيام الذي ارتدى حزاما ناسفا موضة (7/7) واتضح انه مفرج عنه مؤقتا من السجن بعد ادانته قضائيا في تجارة المخدرات !) .

استغل وزير الداخلية تشارلز كلارك الموقف لحث نواب مجلس العموم على التصويت لمشروع قانون الإرهاب وهم المعترضون على تقييده لحرية الرأي؛ رغم ادانة المحكمة لأبو حمزة المصري وفق القانون الحالي لمنع الشغب والتحريض على القتل. فحكومة بلير في حاجة لصوت المسلمين ـ واغلبهم من بسطاء باكستان ـ في انتخابات البلديات في مايو. والدوائر التي يمثل فيها المسلمون 10% من الناخبين، فقد فيها العمال حوالى 8% من الأصوات بينما ارتفعت حصة الديموقراطيين الأحرار الذين عارضوا الحرب في العراق الى 10%، في انتخابات 2005 البرلمانية.

ولذا فالمسلمون في حاجة لاكتساب نضج ثقافة الاحتجاج السلمي في حدود القانون، وفي حاجة أكثر لمصادر امينة لتزويدهم، بحياد، بالحقائق بدلا من تضليلهم بالتطوع بتفسيرها.