حتى لا تنقلب أدوار الإعلام

TT

من المعروف أن حالة الغضب تعطل دور العقل وتجعله ينحسر بشكل يتضاءل فيه ويختفي. ونفس المصير يصيب حاسة السمع، فإذا بالغاضب عاجز عن الإنصات إلى أي رأي مختلف أو إلى أي نقد لموقفه يبطل أسباب الغضب لديه ويمحوها.

وطبعا، المقام لا يسمح باستعراض ما قيل عن آفة الغضب أو الأمثلة التي تظهر بالتجربة والوقائع سلبيات الاحتكام إلى الغضب.

فلا شك أن الغضب الذي استبد بالمجتمعات العربية والإسلامية بسبب الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول، دليل على أن الأمة الإسلامية ما زالت حية تنبض وقادرة على الغيرة على رموزها ومقدساتها، وهو في جزء كبير منه غضب له ما يبرره خصوصا أن السياق الذي نشرت فيه الرسوم الكاريكاتورية، يتزأمن مع الحرص العالمي المعلن على محاربة الإرهاب وبالتالي الأسباب التي تغذيه وتبرره.

ومن غرابة الأمور أن الجوقة اتسعت، فأعادت صحف فرنسية وإسبانية وألمانية نشر الرسوم التي تم نشرها في الدنمارك وبعدها النرويج. والشعار المشترك والمعلن بين مختلف الصحف هو الدفاع عن حرية الصحافة وحرية التعبير ضد مظاهر الاحتجاج الشعبية الإسلامية.

وعند التفكير في حالة الغضب وفي مقابلها تجند صحف أوروبية لعدم الرضوخ للاحتجاج الإسلامي رافضة الاعتذار، فإن الجدير بالتوقف عنده يشمل عدة نقاط.

ولعل أول هذه النقاط ما يتعلق بآليات التفكير والانفعال والسلوك بالنسبة إلينا. فالغضب الشعبي الذي تعاظم استياء على نشر الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول، يعكس تنشئة دينية وثقافية وأيضا سياسية خاصة بالدرجة الأولى. ولقد لاحظنا أن الغضب قد تجاوز الصحيفة ليشمل الدنمارك ثم النرويج ثم فرنسا ثم ألمانيا. ورأى الغاضبون أن هذه الدول تشن حربا ضد الإسلام وتسعى إلى استفزاز المسلمين وإهانتهم. وفي الحقيقة من الطبيعي أن يقارب الغاضبون التجاوزات بهذا الشكل. ولكن عندما نفكك أسباب الغضب نفسها وطريقة فهمنا للأمور، ربما ننجح في ترشيد غضبنا وتوظيفه بشكل ينفعنا. فالذي حصل هو أن الغاضبين قد خلطوا بين خصائص الحكم في البلدان العربية وخصائص الحكم في البلدان الأوروبية. فنحن نعيش في أنظمة أغلبها لا يفصل بين السلطات ويستحوذ على مجالات الرأي والتعبير. ولأننا كذلك لا نستطيع أن نفهم بشكل يسير أن الحكم في البلدان الغربية يستند إلى ثقافة مغايرة، لا تمتلك فيها الحكومات اليد العليا والقابضة على كافة أجهزة القرار والرأي. لذلك فالغضب يجب أن ينحسر في الإعلام الغربي الذي أظهر عدم مسؤولية كجهاز خطير، أصبح يشارك في المتغيرات الدولية من مواقع وبطرائق مختلفة. إن الحرب المعلنة ضدنا هي حرب إعلامية وليست دينية. حرب من طرف واحد، سجلنا نحن فيها غيابا منقطع النظير. وليس مستغربا أن يكون نشر الرسوم الكاريكاتورية أمرا مدبرا له بشكل محكم. ذلك أن نشر الرسوم صحيفة دنماركية في سبتمبر الماضي ثم إعادة صحيفة نرويجية نشرها يوحي بأن القصد هو إثارة المشاعر الدينية للمسلمين. ومن الواضح أن المحركين لهذه الحرب الإعلامية على علم وافر بالنفسية العربية والإسلامية وبميكانزمات اشتغال انفعالاتها. كما لا يخفى على الفاعلين بأن هذه الاستفزازات ستغذي الجماعات الإرهابية وتقدم لها أعواد كبريت. تلجم النخب السياسية العربية الحاكمة والأخرى الثقافية الليبرالية المحاربة للإرهاب في الفضاء العربي والإسلامي، وتصيب خطابهما بالبكم.

ومن جهة أخرى قد نتمكن من التقليص من صحة فرضية الحرب الدينية بمراجعة موقع الدين في المجتمعات الغربية. فلا ننسى أن الدول الأوروبية علمانية والعلمانية تعني الاحتكام إلى معايير مادية عقلانية دنيوية والاعتقاد بزوال الجانب الأسطوري السحري للعالم. لذلك فالرمز الديني والدين نفسه في المجتمعات العلمانية تنتفي عنهما القدسية ولا يخرجان عن نطاق الدائرة الفردية الشخصية. أما نحن فنظرتنا مختلفة تماما، والدين لا يزال يفعل فعله في كافة مجالات حياتنا ويحركنا ويصبغ لنا ردود أفعالنا وطريقة مقاربتنا لشؤون الدنيا والآخرة.

من هنا حصل الغضب الذي كان في معظمه نتاج سوء فهم متبادل وتنشيءة مختلفة على الأصعدة السياسية والدينية، أكثر منه توخي خطابا مزدوج المعايير، إذ إن الازدواجية في المعايير لا تحتكم إليها البلدان الأوروبية في سياستها الداخلية.

ولكن هل أن فهم قدسية حرية التعبير في داخل المجتمعات الغربية التي عوضت قدسية الرموز الدينية، يجنب الإعلام الأوروبي أية مسؤولية؟ وما دور الإعلام في تجفيف منابع الإرهاب وقطع أسبابه؟

أظن أن الماكينة الإعلامية في الغرب ذات خبرة وحرفية تجعلها قادرة على توقع عواقب الاعتداء على رمز إسلامي عالي المقام. وبالتالي فهي في تمام الذكاء ولا نخالها تجهل أن القرب من المسالة الدينية يؤجج ظاهرة الإرهاب ويقوي جماعات العنف. إضافة إلى أن التعلل بمبدأ حرية الصحافة والتعبير في سياق حرج تعيشه منطقة الشرق الأوسط، يجعل من تلك الحرية سلاحا ضد الأمن والسلام. فمن المهم جدا وضع مدونة قانونية وأخلاقية عالمية مشتركة تضبط مجموعة الخطوط الحمراء، التي تلهب العصبية دينية كانت أو عرقية والتي لن يضر حرية الصحافة في شيء، لو جانبت ما هو ديني، وذلك كي لا تنقلب أدوار الإعلام وتختزل في استدعاء الإرهاب.

* كاتبة تونسية

[email protected]