تصريحات رايس وغيرها: لماذا لا يستشعرون الخطر؟

TT

إن تحليل حديث وزيرة الخارجية الأميركية كونداليزا رايس أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ وتزامنه مع نشر الخطة الأميركية لعقد من الصراع ضد الإسلام يقود أي إنسان عاقل وحريص للقلق الشديد على مستقبل هذا الكون، ذلك لأن الصورة التي رسمتها دوائر القرار في واشنطن، للعالم بشكل عام ولمنطقة الشرق الأوسط بشكل خاص، صورة ضبابية وتتناقض مع طموحات وأحلام ومتطلبات الشعوب. فقد وصفت وزيرة الخارجية الأميركية إيران بأنها تشكل «أكبر تحد استراتيجي تمثله دولة واحدة للولايات المتحدة الأميركية في تلك المنطقة، لأنها تعتمد سياسات مناقضة لطبيعة الشرق الأوسط الذي تسعى إليه الولايات المتحدة». والسؤال الجوهري هو ما هي طبيعة الشرق الأوسط التي تسعى إليها الولايات المتحدة؟ وهل على بلدان وسكان الشرق الأوسط التأقلم مع رؤية الولايات المتحدة لهذه المنطقة من وراء المحيطات، أم أنه من واجب الولايات المتحدة التعرف على حقيقة الشرق الأوسط وطموحات أهله وليس الاستماع فقط لمجموعات لوبي في واشنطن معروفة الأهداف والمقاصد ورسم سياسات الدولة العظمى على أساسها وتخصيص الميزانيات الهائلة لها، الأمر الذي أثبت ضرره على المنطقة والولايات المتحدة والعالم! وأستغرب كيف تتحدث وزيرة الخارجية الأميركية عن «حزب الله في سورية ولبنان» علماً أن حزب الله هو حزبٌ لبناني فقط، كما تتحدث كأن العلاقات الإيرانية السورية قد بدأت البارحة «رغم شكوك المجتمع الدولي في سورية» على حدِّ تعبيرها، بينما العلاقات السورية الإيرانية تمتد إلى عقودٍ خلت، حين دعمت الولايات المتحدة صدام في حربه ضدّ إيران بينما وقفت سورية مع إيران ضدّ هذه الحرب المدّمرة للمنطقة. وبعد عشرين سنة من تلك الحرب اكتشفت الولايات المتحدة خطر صدام على العراق والمنطقة، بينما كانت سورية وإيران قد سبقتاها بعقدين من الزمن إلى هذا الاكتشاف، وهذا أمر بديهي لأن أبناء المنطقة الذين يعيشون فيها منذ آلاف السنين يدركون جيداً كنة الحياة فيها وأسلوب التقدم والاستمرار وما تتطلبه حياة واستمرار وازدهار الشعوب في هذه المنطقة. أما حديث وزيرة الخارجية عن مدّ يدها إلى شعوب المنطقة ودعمها لتطلعاتها إلى مستقبل أفضل فإن جلّ ما تعمل من أجله هذه الشعوب هو درء الأخطار المماثلة للخطر الكبير الذي تعرض له الشعب العراقي بعد احتلال أرضه وتعذيب شعبه واغتيال أمنه وعلمائه ومفكريه، وترى هذه الشعوب أنَّ الاستمرار في هذا الطريق لن يجلب لها الديمقراطية أو الأمن أو السلام. والسؤال هو هل لدى السيدة وزيرة الخارجية أية فكرة حقيقية عن سورية أو إيران أو حزب الله أو الصراع العربي ـ الإسرائيلي؟ وهل تعتقد أن شعوب هذه المنطقة غير قادرة على اختيار قاداتها وأقدارها وصنع مستقبلها وهي الشعوب التي أهدت الإنسانية أبجديتها وحضارتها وتعايش دياناتها؟

كلما تحدثت وزيرة الخارجية عن شعوبنا وبلداننا كلما سببت غربةً أكبر بين شعوب هذه البلدان والولايات المتحدة لأنها لا تقيم وزناً لمشاعر شعوب المنطقة وحقوقها، ولا لذكاء من تتحدث عنهم وعن حرياتهم. فأية حرية مثلاً يمكن تحقيقها للفلسطينيين في الوقت الذي تشرع اسرائيل ببناء جدار لفصل غور الأردن عن الضفة؟! الأمر الذي سيسجن الفلسطينيين بين جدارين، واحد في الغرب بين الضفة وإسرائيل والثاني في الشرق بين الضفة وغور الأردن، مما سيضطر الفلسطينيين لدى سفرهم إلى الأردن إلى العبور من إسرائيل، كما سيلحق ضرراً بالغاً بالاقتصاد الفلسطيني، لأن الزراعة الفلسطينية الأساسية موجودة في منطقة الغور وتبلغ مساحتها حوالي 1.5 مليون دونم.

هل اطلعت السيدة رايس على الإذلال الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني وهو يعبر من مدينة إلى أخرى حيث تقام حواجز الاحتلال وجدران الاحتلال وتهجير الاحتلال للسكان الأصليين وقتلهم وحرمانهم من حقوقهم الأساسية ثمّ يتحدثون عن الحرية لشعوبنا ومنطقتنا؟! هل تعلم السيدة رايس أن قطع شجرة زيتون يعتبر بالنسبة لامرأة فلسطينية زرعت الشجرة وسقتها واحتضنتها كقطع أصابعها وكقطع شرايينها؟ وهل تعلم أن ما نحتاجه في الشرق الأوسط هو العدالة وتطبيق الشرعية الدولية والالتزام باتفاقيات جنيف ليس حين يتعلق الأمر بروح شخص غربي فقط ولكن أيضاً حين يتعلق الأمر بحياة وكرامة المسلمين والمسلمات والعرب في أوطانهم وفي الخارج؟ هل من المقبول للسيدة رايس أن تكون ردة فعل البنتاغون على نشر صور تعذيب يندى لها جبين البشرية بالقول «لا داع لإثارة ضجة جديدة حول صور قديمة»؟! أولاً هذه ليست صوراً، بل رجال بقلوب وأرواح وعقول، تُمارَسُ ضدّهم أبشع أنواع التعذيب وأكثرها وحشيةً في تاريخ الإنسانية، وثانياً حين تظهر صور التعذيب على الفيديو ونراها بأم أعيننا لا يمكن ولا يحقُّ لأحد أن يسمّي هذه «ادعاءات سيتم التحقيق فيها»، لأنها ليست ادعاءات بل حقائق وليست بحاجة إلى تحقيق وليست حوادث منعزلة، بل أصبح من الواضح أن ما كشف بطريق الصدفة عن التعذيب يرى أن التعذيب منهجي وينطلق من نظرةٍ دونية وحقدٍ عنصري دفين ضد من يتم تعذيبهم.

وفي حمأة كل هذه المواقف المستهينة بحياة الشعوب وحريتها وكرامتها لا يرى البرلمان الأوروبي ضيراً في نشر صورٍ مسيئةٍ للرسول الكريم عليه السلام وتنشر الولايات المتحدة خطة لحرب طويلة الأمد ضد المسلمين، وطبعاً لا تحتوي هذه الخرائط على بشر أو حضارة أو ثقافة أو تاريخ بل ترسم الموانئ والمنافذ البحرية والحقول النفطية والمواقع الاستراتيجية ذات الأهمية لقوة ومستقبل الولايات المتحدة.

إنّ نشر هذا المخطط يعتبر خطوةً خطيرةً جداً تُِشعرُ شعوب العالم بأن الولايات المتحدة تنحو منحى قد يهدّد مستقبل البشرية، بدلاً من وضع الميزانيات لاحتواء وتخفيف بؤر الصراع والتوتر وإشاعة جوّ السلام والأمن والاحترام المتبادل بين الشعوب.

إن الهوة بين الغرب والإسلام تتسع يوماً بعد يوم، وهذه هي المرة الأولى التي تضع الولايات المتحدة نفسها في خندق واحد مع إسرائيل بالنسبة لحماس وإيران، وهذا أمر مؤسف بالفعل خاصةً في ضوء السياسة العنصرية الواضحة التي تمارسها اسرائيل ضد السكان الفلسطينيين الأصليين بهدف الاستيلاء على أراضيهم ومياههم وثرواتهم واستقدام مستوطنين مكانهم، وبما أن وزيرة الخارجية قالت إن «شعوب الشرق الأوسط وشعوب أميركا اللاتينية يجب أن تكون قادرة على اختيار زعمائها» فإنني أؤكد لها أن هذه الشعوب قادرة بالفعل، وأن سياسات الولايات المتحدة في هاتين المنطقتين تشّكل بالفعل عائقاً أمام حرية الشعوب وكرامة الشعوب وقدرتها على الاختيار الحرّ والمسؤول، ولكن حين تقول هذه الشعوب كلمتها ستكون الولايات المتحدة قد خسرت النبض الأساسي لهذه الشعوب في هاتين المنطقتين.

اعتقد أن السيدة رايس بحاجة الى أن تلتقي ليس بممثلي إيباك فقط وإنما بممثلي العرب والمسلمين كي تكون الصورة متوازنة خاصةً أن العرب والمسلمين يشكلون الغالبية العظمى في هذه المنطقة، وإذا كانت لا تثق بهؤلاء فماذا عن الاستماع إلى مجلس الكنائس العالمي في واشنطن الذي وجّه رسالة للسيدة رايس في 8 فبراير (شباط) 2006 يدعوها للتعرف عن كثب على أسباب معاناة شعوب الشرق الأوسط والحاجة إلى تطبيق قرارات مجلس الأمن والالتزام باتفاقيات جنيف واحترام حقوق الشعب الفلسطيني والعربي وليس فقط التحدث عن أمن إسرائيل.

لقد علّمنا التاريخ في هذه المنطقة أن الأمن والسلام لا يمكن أن يستمرا ما لم ينعم بهما الجميع، ولا يمكن تحقيق أمن وسلام طرف على حساب أمن وسلام الطرف الآخر.