دُجَيْل.. تاريخ نهر وقضية

TT

كانت زيارة صدام حسين لبلدة دُجَيْل (تموز 1980)، ومحاولة اغتياله فيها، تنطويان على تحدٍ خفي بينه وبين حزب الدعوة العراقي، بعد إعدام رمزه آية الله محمد باقر الصدر (نيسان 1980). أراد صدام أن يظهر للعالم، أن بساتين دُجَيْل ستحييه، وما حزب الدعوة، الذي أعلن أبادته بأثر رجعي، وبقية المعارضة فيها، إلا حديث خرافة. إلا أن صداماً كان مستعداً كعادته للطارئ، فقبيل الزيارة مسحت الطائرات وعيون البصاصين بساتين النخيل والرمان والأعناب.

ودُجَيْل التي اشهرها إنزال العقاب الجماعي، ومسلسل المحاكمة الجارية، أخذت اسمها من نهرها المتفرع من دجلة، والمصغر من اسمه. يغرف الماء من سامراء ليسقي القرى جنوبها، ثم تعود فضلته إلى دجلة ثانية. بعدها مده البويهيون حتى مقابر قريش حيث الكاظمية اليوم. ووسعه المستنصر بالله (ت642هـ)، وأنشأ قنطرة عليه، عرفت بجسر حربي (الفخري في الآداب السلطانية). وأعاد حفره والي بغداد العثماني مرتضى باشا (نحو 1653 ميلادية)، فجبى من خراج ضفتيه أكياساً من الذهب. وقديماً فخر أبو حيان التوحيدي (ت414 هـ) في «الرسالة البغدادية» ببساتين دُجَيْل أعالي بغداد. وتجدر الإشارة إلى المبالغة بتخريب المغول لقنوات الري بالعراق، فما خُرب كان ساقية من سواقي دُجَيْل، واستمر النهر جارياً(خصباك، العراق في عهد المغول)، وظلت البساتين مورقة حتى تموز 1980.

شهدت بلدة دُجَيْل أحداثاً جساماً قبل حدث محاولة اغتيال صدام حسين: حرب مُصعب بن الزبير (71هـ) مع عبد الملك بن مروان ومقتله، وهو عامل أخيه عبد الله على العراق. ولإبراهيم الأشتر (قتل 71هـ)، أحد أبرز قادة جيش مُصعب، مرقد في أطرافها، وما زال ماثلاً يُزار. ونسبة إليه عرفت دُجَيْل بالإبراهيمية. وكانت ساحة حرب بين ابن الأشعث والحجاج بن يوسف الثقفي (ت 95هـ). وذكرت السنة (200 هـ) في أحداث ثورة الجند (الجيش) على الحسن بن سهل (ت236هـ) وزير عبد الله المأمون، فبعد أن ماطلهم بدفع رواتبهم، طلبوا استقالته، فأخذوا والي بغداد إسحاق بن موسى بن المهدي وأنزلوه على دُجَيْل. وقيل قُتل فيها الخليفة المستعين بالله (252هـ)، بعد هروبه من سامراء، فحمل رأسه إلى ابن عمه المعتز بالله، ورميت الجثة في الماء (تاريخ الأمم والملوك). وعبرت دُجَيْل كتائب المغول في جولتهم الأولى، قبل أربع عشرة سنة من اجتياح بغداد (656 هـ) (الحوادث الجامعة). وحاصر المنطقة الوالي المملوكي داود باشا (1817ـ1831) في حملة لإخضاع القبائل المحيطة بدُجَيْل، التي أعانت الإيرانيين ضده. تحدر من دُجَيْل صاحب قصيدة «الرصافية» الشهيرة، علي بن الجهم (ت249هـ)، ومطلعها: «عيون المها بين الرصافة والجسر...». وهو القائل في مسقط رأسه: «أزيد في الليل ليل.. أم سال بالصبح سيل.. ذكرت أهل دُجَيْل.. وأين مني دُجَيْل». وعلى رواية: «أسأل بالليل سيل.. أم أزيد في الليل ليل.. يا أخوتي بدُجَيْل.. وأين مني دُجَيْل». وقال البحتري مادحاً قاضي دُجَيْل: «ولولاك ما أَسخطت عَمي وروضها... ونهرَ دُجَيْل للذي رضي الثغر» (معجم البلدان). وتحدر منها أيضاً وجهاء معاصرون عديدون، هجروها إلى بغداد والنجف: الشاعر كاظم الدُجَيْلي، الذي أصدر مع الأب أنستاس الكرملي، العام 1911، مجلة «لغة العرب»، ونزحت أسرة صاحب «موسوعة العذاب» المحامي عبود الشالجي، بعد شحة الماء بشلج من حواضر دُجَيْل.

تقطن دُجَيْل قديماً قبيلتان: الخزرج على ضفة النهر الغربية، والمحاويل على ضفته الشرقية. وكثيراً ما دارت المعارك الطاحنة بينهما. حالياً تقيم فيها عشائر العبيد، وخفاجة، والزبير، والسادة الموسوية، والسلامية، وآل حبيب. ومن الغرائب بمكان أن تحتضن أرض دُجَيْل مرقداً لبنات الإمام موسى الكاظم، مثلما شيد آخرون مراقد أخرى لبنات الإمام الحسن بن علي بن أبي طالب في أمكنة أخرى من العراق. وعُرف صاحب المرقد المتوسط بين بَلد ودُجَيْل، السيد محمد بن الإمام العاشر علي الهادي (ت252هـ)، لقب «سبع الدُجَيْل». وقيل كان هو الإمام الحادي عشر، وبالتالي يكون المهدي المنتظر من أنجاله، وقد فسر المجلسي في «بحار الأنوار» وغيره انتقال الإمامة إلى أخيه الحسن العسكري بالبداء.

ولمرقد سبع الدُجَيْل، الذي ذكره الحموي (ت626هـ) في مادة بَلد، كرامات لا تحصى. اشتهر بين عوام الشيعة منها قصة جلب كنتور (خزانة ملابس) من البصرة إلى مرقده، نذرته امرأة له ولم تف بنذرها، فلما وصلت زائرة شاهدت كنتورها بملابسها يسبقها طائراً إلى المرقد، عبر مسافة أكثر من خمسمائة كيلومتر. واشتهرت حكايات من قبيل هذا بين عوام السُنَّة حول كرامات الشيخ عبد القادر الكيلاني (ت561هـ)، صاحب المرقد المعروف وسط بغداد. وسدنة مرقد السيد محمد من أهل الدُجَيْل الشيعة، وزواره من الشيعة والسُنَّة، بينما سدنة مرقد آبائه بسامراء من أهل السُنَّة، وزواره من الطائفتين أيضاً. لكن عندما يُقحم الدين والطائفة في السياسة، ويتصدى الناس باسمهما لدست السلطة يُهدم التعاطف، ويحجم التسامح إلى ما هو الحال عليه الآن.

هذا مختصر سيرة بلدة ونهر، احتفظ أهلوه بلفظه الأصيل، مثلما كان في العهد العباسي دُجَيْل (ضم الدال وفتح الجيم وسكون الياء)، حسب ما تلفظه الشهود في المحكمة الجنائية، وجاراهم في ذلك القاضيان رزكار محمد أمين، ورؤوف رشيد عبد الرحمن. أما بقية العراقيين فاعتادوا لفظه بكسر الدال أو سكونه. أعادت محاكمة صدام وأعوانه السبعة النهر الصغير وبلدته إلى الواجهة، ورفعته إلى مستوى العالمية، بعد غياب أخباره، كغيرها من الحواضر العباسية، في بطون التواريخ.

وعلى الرغم من إبادة 148 دُجَيْلياً، وهدم البيوت وجرف البساتين، إلا أن هناك مَنْ تمنى تقديم ملفات قضايا أخرى على قضية دُجَيْل «سداً للذرائع»، حسب المنطق الفقهي، من إتهام السلطة الحالية بثوبها الإسلامي الشيعي بالثأر من السلطة السابقة بثوبها السُنَّي. تقديم ملف محاكمات صدام السريعة لرفاقه (تموز 1979)، وقتلهم الأسرع، وسقي سموم الثاليوم للمعتقلين، والاغتيالات الخارجية، وضحايا محاكمات الانقلابات الكاذبة، والتنظيمات العسكرية المضادة المفبركة، التي لم تعرف محامين عراقيين ولا عرباً، ولا قوانين، ولا متهماً يشتم القاضي، و يلقي خطاباً، أو يشتكي من عدم وجود مصعد كهربائي يحمله إلى قفص الاتهام!

[email protected]