مشكلة لحود: شعبيته في شارع غير شارعه

TT

الأزمة الرئاسية في لبنان قضية الساعة في هذا البلد العربي الصغير. وهي من الخطر بحيث تفرض على الصحافة السياسية عرضها ومعالجتها. إخفاؤها تحت الغطاء العربي الرسمي الثقيل، الذي غطى قبلها أزمات وأخفى مقدمات حروب، قد يفاجئ العرب بانفجارها ومضاعفاتها التي تشكل، عندئذ، كارثة قومية أخرى.

إميل لحود اليوم اشكالية لبنانية معقدة، بل هو مشكلة عربية واقليمية باتت تتداخل، لسوء الحظ، في صميم الصراع الإيراني ـ الاميركي في المنطقة. الطرح الصريح للقضية لا يفرض الانحياز لطرف في النزاع، فالانحياز الأعمى يخل بأمانة التوصيل الإعلامي.

بل لكون المشكلة تتعلق بمنصب الرئاسة الذي هو رمز السيادة والاستقلال والشرف الوطني، فلا بد من الالتزام بأدب التعامل مع الرؤساء بعيدا عن التجريح، بعيدا عما أسميه بـ «أدب الاستفزاز» الصارخ الذي يطبع الحياة السياسية اللبنانية في الشارع والصحافة والتلفزيون.

أدخل في صميم المعترك من حيث انتهى لا من حيث بدأ، لأقول ان الرحيل الرئاسي يتوقف الآن على أمرين اثنين: الإجماع الوطني، والبديل.

الاجماع الوطني والطائفي غير متوافر الى الآن. عندما مدد الرئيس بشارة الخوري لنفسه، سقط فورا باجماع وطني وطائفي 1952. كان التمديد نحسا على كل الرؤساء الذين حاولوه وجربوه من شيمعون الى لحود. سقط مشروع التمديد لشيمعون 1958 لغياب الإجماع. كان الشارع المسيحي معه، والشارع الاسلامي ضده. كان الرئيس فؤاد شهاب عاقلا. اقلع عن المحاولة 1966 لغياب الإجماع أيضا. كانت الطبقة السياسية المسيحية ضده. والشارع الاسلامي معه.

لست متشائما خائفا على لبنان. فرص الحرب الاهلية ضعيفة للغاية، لكنها ليست بمستحيلة. الطوائف تتردد في وضع اصابعها مرة أخرى في الأتون. السبب الأوجه والأقوى المانع للحرب هو غياب الفرز الطائفي في معركة الرئاسة. مشكلة لحود كون شعبيته في شارع غير شارعه: نصف الشارع المسيحي ضده. نصف الشارع الاسلامي (الشيعة) معه. النصف المسيحي الآخر مع حليفه المستتر ميشال عون المرشح لوراثته. النصف الاسلامي (السنة) معظمه ضده.

نعم، الحرب الاهلية احتمال بعيد، لكن ليس بمستحيل تبادل التجريح والاستفزاز، وإنزال الساسة القضية الرئاسية الى الشارع الطائفي، كل ذلك يبدد طبقة الأوزون الواقية للبنان، ويُسَخِّنُ معدن اللبنانيين القابل للالتهاب بسرعة.

إذا كان غياب الإجماع الوطني والطائفي يخدم لحود، فالصراع الإيراني ـ الأميركي يخدم خصومه ضده! حلف لحود مع حزب الله حليف إيران وسورية، يضع الرئيس اللبناني كارها أو راضيا، في المعسكر الإيراني/السوري المعادي لأميركا، في ذروة «زنقتها» في المنطقة.

كلما اقتربت سورية شبرا من ايران، ساءت فرص لحود في لبنان. عندما زارت كوندوليزا بيروت كان أحد نواب الرئيس الإيراني في ضيافة دمشق. يبدو أن إيران نجحت أخيرا في التغلب على نقطة الخلاف الوحيدة مع نظام الأسد. فقد أقنعته بالتعاون والاعتراف بحليفها النظام الشيعي في العراق.

ناجي عطري رئيس الوزراء السوري يتحدث عن «الترابط الاستراتيجي بين سورية وايران»، بعد التوقيع خلال زيارة نائب نجاد على اتفاقات تتعهد فيها إيران بتمويل ربط «المحور الشيعي» الممتد من ايران الى سورية عبر العراق، بالطرق والسكك الحديدية، وأنابيب الغاز والنفط والكهرباء.

وهكذا، كلما بقي الرئيس لحود في الرئاسة يوما آخر، ازداد خوف أميركا وخصومه من أن تمتد طرق وسكك وأنابيب «آيات الله» من سورية وإيران الى لبنان. من هنا، إلحاح كوندوليزا ضمنا علي استعجال «ترحيل» لحود وتجريد حزب الله من السلاح. غير أنها ربما بنصيحة خليجية/مصرية صبت ماء باردا على رؤوس هؤلاء الخصوم، عندما أكدت على أن الترحيل يجب أن يتم بالدستور، لا من خلال الشارع.

انتزاع «حزب الله» المبادرة الشارعية من خصوم لحود، ومناورة نبيه بري الذكية بالدعوة الى مائدة الحوار الوطني (2 مارس)، ساهما في تمييع ساعة الصفر التي حددها سمير جعجع، بدعم من حليفه جنبلاط لإسقاط الرئيس (14 مارس). جعجع «المحارب» دُفن في سجنه، على حد قوله عن نفسه، تدليلا على اعتناقه الديمقراطية، لكن غيبته الطويلة في قبو وزارة الدفاع تنسيه أن مواعيد السياسة في لبنان هي أوهام كمواعيد الغرام. وكما قال له حسن نصر الله، فالفرض الذي أخفق في الحرب الأهلية أصبح مستحيلا، من دون تفاهم وطني وإجماع وطني.

في غيبة الإجماع الوطني والطائفي، تبدو الأكثرية الحريرية الحاكمة بحاجة، دستوريا، الى أكثرية الثلثين النيابية لعزل الرئيس. أمل الأكثرية في إغراء بري بقضم التفاحة المحرمة، لكن بري قد لا يرغب الآن في فك حلفه مع «حزب الله» وإثارة غضب إيران وسورية، بالتصويت لعزل لحود. واكتفى بتسليم «رقبة الرئيس» الى بطريرك الموارنة ليبحث عن البديل.

الجنرال ميشال عون (71 سنة) ليس «عريس الغفلة» في المثل المصري الشعبي. هو المرشح «الصابر» الذي انتظر سقوط تفاحة الرئاسة في حضنه منذ أن كان «نابليون» المنفي في «جزيرة» فرنسية. لكن كتلة عون لن تصوت مع الأكثرية لعزل لحود، إلا إذا تعهدت الأكثرية بترقية عون رئيسا للجمهورية.

في المنظور الراهن، يبدو عون المرشح الأقوى. لكن فتور كوندوليزا حياله، وحلفه التكتيكي مع «حزب الله» يغريان خصومه، لا سيما في الطبقة السياسية المسيحية، بمقاطعته وحرمانه من الرئاسة. وحتى اذا قبلت الأكثرية بعون رئيسا، فهل «يُطوِّبُه» البطريرك صفير (84 سنة) الذي فوضته كوندوليزا بالبحث عن «العريس» الرئاسي؟ البطريرك الطيب الطاعن في السن اعتذر عن زلة لسان ألمح فيها الى أنه لا يرغب في رؤية عسكري رئيسا، لكنه ربما لم ينس أن أنصار عون أنزلوه يوما من فراشه، وأجبروه على الهتاف بحياة قائدهم من نافذة البطريركية.

إذا صفح البطريرك، فهل يصفح جعجع الابن الروحي للبطريركية وخصم عون اللدود؟

عون يوليوس قيصر الذي يتربص به المرشحون لخطف الرئاسة منه. أمين الجميل ربما هو طامح أيضا في أن يكون مرشح التسوية، لكن هل يقوى، وهو الكاره للسلاح، على زرع سلاح «بروتس» في خاصرة قيصر؟

في غيبة الإجماع، وفي غيبة البديل، يبقى لحود رئيسا. وفي ذروة الاستقطاب في المنطقة بين أميركا وايران، يبقى لبنان معلقا بين مؤسسة رئاسية معزولة، ومؤسسة حكومية مشلولة.

وبعد، هل أخطأ لحود؟

نعم، بقبوله التمديد بالشكل الدستوري المستعجل الذي فرضه السوريون.

هل كان لحود رئيسا طائفيا؟

لا شبهة في مارونية لحود. الرجل ينتمي الى أسرة سياسية / عسكرية من صميم الجبل الماروني. اعتداله ولا طائفيته خدما عروبته المسيحية. غير أن تساهله مع السوريين أضعف، في رؤية الشارع المسيحي، المؤسسة الرئاسية المارونية.

هل كان لحود صديقا للراحل الحريري، حقا؟!

لا، الخلاف بدأ حول ميزانية الجيش، ثم تحول الى خلاف حول السياسة الاقتصادية والمالية. وما لبث أن تطور الى خلاف شخصي تتحكم به الكراهية المتبادلة التي أعيت مهارة السوريين في «تطويع» اللبنانيين.

وبعد، ماذا أقول أيضا؟

لا ينقص من قدر ومكانة الحريري الراحل ولحود الباقي، القول أن قسطهما من الثقافة، لم يساعدهما على تجاوز خلافاتهما الحادة. رئيس الدولة حمل معه الى الرئاسة أفكارا أفلاطونية عن مكافحة الفساد وإصلاح الإدارة، ورئيس الحكومة الطموح اعتقد ان نجاحه في تنفيذ المشروع الاقتصادي والاعماري، يجب أن يخدمه في احتكار المشروع السياسي.