لا بديل للوطن

TT

كمؤمن بالعلوم والتقنية الحديثة وفي طياتها الهندسة البشرية وحكم العقل, خطر لي قبل سنوات انني لو كنت كويتياً لطالبت بغلق مدينة الكويت ونقل كل سكانها الى مدينة جديدة رائعة تصمم خصيصاً لهم في مكان بديع وصحي، في كندا أو استراليا، أو المغرب اذا ابتغوا محيطا اسلامياً، وترك الكويت لرجال النفط يستخرجونه ويسوقونه ويدفعون ارباحه لهذه المدينة الجديدة. فما الداعي لتحمل الطقس المهلك الحار والهواء المحمل بالغبار والطوز والذباب والعيش في هذه المنطقة الموبوءة بالأمراض والارهاب لمجرد التمسك بأرض الوطن.

كنت اتحدث عن ذلك مع حمد الراشدي، وزير الاعلام العماني فقال لي انه في بداية النهضة العمانية الحاضرة، عمد السلطان قابوس في اطار نهجه العقلاني والاستشاري الى استشارة شتى الخبراء العالميين بشأن المسيرة الانسب والأصلح للسير بعمان. أشار عليه أحدهم بأن أفضل طريق هو تجميع كل هذه المجموعات البشرية المشتتة في قرى عمان وجبالها وصحاريها ومناطقها النائية في مدينة كبرى واحدة يتم مدها بكل ما يلزم من الخدمات ووسائل العيش المعاصرة وتكريس كل واردات النفط والغاز والسياحة وغيرها من ثروات عمان لراحة سكان هذه المدينة الواحدة وازدهارها وهنائها، ثم ترك كل تلك الديار القفراء النائية للغربان والذئبان والذبان وكل ما خلق الله من حشرات وهوام.

يبدو الاقتراح عقلانياً ومنطقياً، ومع ذلك فلم يأخذ به قابوس بن سعيد. فضل بذل ألوف الريالات على مد اسلاك الكهرباء والهاتف عبر الجبال والوديان الى بيت قصي لراع فقير في الجبل الأخضر أو هضاب ظفار على أن يقتلع ذلك الراعي من مكانه ويأتي به الى مسقط.

لم يرق لنفسي ذلك. وجدته نابياً من زاوية الهندسة البشرية والتقييم الاقتصادي. في طريقي الى الفندق تحدثت لسائق السيارة، وسواق السيارات هم مصدر الحكمة لسواق الصحف والمجلات. اكتشفت ان السيد راشد، سائق السيارة، يسكن في الباطنة ويقتضي عليه صباح كل يوم ان يقطع 170 كيلو مترا ليصل لمكان لعمله في مسقط ثم 170 كيلومترا ليلاً ليعود لزوجته وأولاده في الباطنة. قلت له اسمع يا أخي راشد. هذا شيء غير معقول. لماذا لا تنقل عائلتك لمسقط وتحل هذه المشكلة وتوفر على نفسك التعب وفلوس البنزين؟

قال وتبغاني اترك قريتنا والبيت الذي عشت فيه والناس الذين تربيت معهم؟

صدمني جوابه، وبه اهتديت لحكمة قرار السلطان قابوس. الانسان لا يعيش، كما قال المسيح، بالخبز وحده. فهمت كلمات ابن الرومي:

ولي وطن آليت ألا ابيعه وألا أرى غيري له الدهر مالكا.

عدت الى غرفتي. وذهبت لأستحم واترنم على عادتي تحت الدش. ولكنني اليوم وجدت نفسي ارنم اغنية العراقي:

اللي مضيع ذهب بسوق الذهب يلقاه

واللي مفارق محب يمكن سنة وينساه

لكن اللي مضيع وطن وين الوطن يلقاه؟