العراق: وكأنه لا مفر من حرب أهلية..!

TT

يحدث في العراق ما يحدث في لبنان. الكل هنا وهناك مختلف مع الكل، واذا كان لبنان عاش حربه الاهلية ولم يستطع الفرقاء بعدها الاتفاق، فإن العراق يدخل حرباً اهلية، قد لا تكون بمواصفات الحرب الاهلية اللبنانية، من ناحية القصف المدفعي والصاروخي، انما الحرب الاهلية في العراق بدأت بمواصفاتها الطائفية وسوف تستمر سنوات طويلة لأسباب كثيرة. في لبنان يطالب البعض برحيل رئيس الجمهورية وفي العراق يرفض البعض تكليف رئيس الوزراء السابق ابراهيم الجعفري تشكيل الحكومة الجديدة. ولأن لبنان انتهى من حربه الاهلية، فإن الانظار تتركز على العراق الداخل في حرب اهلية تثير الرعب في المنطقة وتترك الاوضاع معلّقة في لبنان .

ويجدر القول ان الاكثر قلقا من حرب اهلية متفجرة في العراق هي ايران، فهي بعد تفجير مسجد الامامين الهادي والعسكري، طلبت على الفور من مقتدى الصدر الذي كان وصل لتوه الى لبنان ليبقى فيه عشرة ايام العودة الى العراق، من اجل التشديد في الحفاظ على وحدة المسلمين العراقيين. ان لإيران هدفاً عسكرياً واحداً هو الحصول على السلاح النووي، فمن دونه لا قيمة لجيشها الذي في رأي الخبراء ليس جيشاً بالمعنى الحديث اعداداً وتجهيزاً. مع السلاح النووي تصبح ايران القوة الاقليمية المسيطرة، لذلك فان اي احداث اخرى تؤثر في تركيزها على الهدف النووي الاساسي. ان طهران تنظر الى بروز الشيعة في العراق كوسيلة ابتزاز استراتيجي ضد الولايات المتحدة، لأن الميليشيات الشيعية تستطيع ان تدّمر الهدف الاميركي الساعي الى ديموقراطي وموحّد، فإذا انفجر الوضع الطائفي في العراق في وجه الاميركيين، فقدت ايران قدرتها على تهديد واشنطن بالورقة الشيعية.

لهذا ومنذ البدء تعاونت ايران مع الولايات المتحدة في غزو العراق للاطاحة بنظام صدام حسين، واعتمدت سياسة دعم الجهود الاميركية لتشكيل حكومة دستورية في العراق تحمل الأغلبية الشيعية الى السلطة بطريقة سلمية. لكن الولايات المتحدة ادركت بعد احتلالها العراق ان اسوأ ما يمكن ان يحدث هو بروز حكومة دستورية مستقرة في العراق، لأنه بمجرد ان تتحكم العناصر الشيعية بالوزارات الاساسية، عندها سيكون التدخل الايراني في الشأن العراقي من غير حدود.

ان حرباً اهلية طاحنة في العراق، اذا ما اشتعلت ستجعل من الصعب على ايران اتخاذ موقف المتفرج خصوصاً اذا ما تعرّض الشيعة للمجازر، وفي الوقت نفسه، فإن تدخلاً علنياً من قبلها، سيوفر الفرصة الحقيقية لواشنطن كي ترد عسكريا على ايران من دون التذرّع بالسلاح النووي.

اذا اخذنا الامور بشكل مبسّط، نرى ان مقاومة سقوط العراق في الفلك الايراني، تقودها المقاومة العراقية السنّية، وليس المتسللون الاجانب، وقد اظهر السنّة القدرة على شن عمليات انتحارية، لن ينتصروا في النهاية انما لا يمكن القضاء عليهم الا اذا تقاتلوا فيما بينهم بشكل ضار. اما الشيعة فإنهم مستعدون للتضحية باعداد كبيرة منهم في سبيل الوصول الى اللحظة التاريخية التي ينتظرونها منذ قرون طويلة. في هذه الاثناء اقام الاكراد مقاطعتهم المستقلة، وهم يستفيدون من حالة تقسيمية دون ان يتحملّوا مسؤوليتها، وهكذا ابعدوا عنهم غضب الاتراك. اما بالنسبة الى الاميركيين فانهم اعادوا انتشار قواتهم خارج المدن، واذا كان الغرض المنظور من مثل هذا التوزيع هو تخفيض عدد ضحاياهم، الا انه في الواقع يستهدف تحقيق عاملين:

الاول، اعطاء الحرية للمتمردين السنّة والميليشيات الشيعية بتجميع قواتهم ومواجهة بعضهم بعضا في معارك ليلية، او عمليات انتحارية.

الثاني، منع اي طرف من النجاح في تجميع قوات فائقة العدد من اجل اشعال حرب اهلية شاملة.

نتيجة هذه المواجهات ستكون حرباً اهلية من الدرجة الثانية من حيث الحدة والتواصل كما يخطط لها من في يدهم امرها. اما السكان الذين سيدفعون ثمن هذه الحرب، فإنهم سيضطرون الى الهجرة الى المناطق التي توفر لهم الحماية المذهبية المطلوبة، ولن يكون بالتالي اعلان تقسيم العراق رسمياً، لأن العراقيين سيقسمون انفسهم تلقائياً.

الآن اذا تعمّقنا في الواقع العراقي اكثر، نرى انه منذ سنتين واكثر كانت التوقعات بأن صراع المصالح ما بين الفئات العراقية من شيعة عرب وسنّة عرب واكراد سنّة سيصل الى منعطف حاسم عندما يُطلب من القوى السياسية التفاوض على تسوية دائمة لخلافاتها او التحرك نحو التقسيم. يبدو انه تم الوصول الى ذلك المنعطف. لقد جرت الانتخابات النيابية في الخامس عشر من شهر ديسمبر (كانون الاول) الماضي، وبعد مرور اكثر من شهرين يتبين صعوبة او استحالة التوصل الى اتفاق، مع وضع كل فريق لخط احمر لا يسمح بتجاوزه. الاخطر من هذا وحتى قبل وقوع الاعتداء على مسجد الامامين الهادي والعسكري، انهارت العملية السياسية عندما خرج السفير الاميركي في بغداد زلماي خليل زاد، عن سياسته المعهودة بلي اذرع العراقيين سراً، وهدد علناً بوقف الدعم الاميركي المادي اذا لم يتفق السياسيون على حكومة وحدة وطنية، ومع استمرار الاطراف في تناحراتها، يتقلص التأثير الاميركي ليكتفي السفير باطلاق التحذيرات، التي لا يستطيع تنفيذها، ويهرع الى لقاء الرئيس العراقي جلال طالباني بعد انتهاء لقائه مع ممثلي الاتحاد العراقي الموحد ليعرف ما اذا كانوا وافقوا على سحب تكليف ابراهيم الجعفري.

فالجعفري الذي يمثل حزب الدعوة فاز بالتكليف بسبب دعم ممثلي مقتدى الصدر له، وبسبب معارضة الصدر لتكليف عادل عبد الهادي المسؤول في المجلس الاعلى للثورة الاسلامية، ايد تسمية الجعفري. لكن تحالف الدعوة والصدريين لم يكن من دون ثمن، فهو وعد المجلس الاعلى للثورة الاسلامية بابقاء وزارة الداخلية له. وخلال الحكومة الماضية اتهمت هذه الوزارة بارتكاب المجازر بحق السنّة العرب. عدنان الدليمي زعيم جبهة التوافق العراقي وضع خطوطه الحمراء وأصر على منح حقيبتي الداخلية والدفاع الى شخصيات لا ترتبط بالمؤسسة الشيعية الدينية، وقد رد على طلبه المسؤول عن قوات بدر بأن المجلس الاعلى للثورة الاسلامية: «لن يتخلى عن الحقائب الأمنية».

اذا حُلت عقدة ايجاد بديل للجعفري ليس معروفاً كيف سيقبل السنّة في ابقاء وزارة الداخلية في يد المجلس الاعلى، وكان جون بايس رئيس مكتب حقوق الانسان التابع للامم المتحدة في العراق قال لصحيفة «الغارديان» البريطانية في الثاني من الشهر الجاري إن «كتائب الموت» قتلت في الاشهر الاخيرة 7آلاف عراقي (وقعت عمليات القتل الجماعي قبل الاعتداء على مسجد الامامين)، وان جميع الجثث تحمل علامات التعذيب، ايديها مربوطة خلف ظهرها، واطرافها مثقوبة بمقداح كهربائي، وقال بايس ان عمليات القتل قامت بها ميليشيات شيعية تابعة لوزارة الداخلية التي يديرها بيان جبر صولاغ، واكد ان الامم المتحدة تملك وثائق وصوراً لجثث القتلى، وان مبنى استلام الجثث يصله شهرياً ما بين 700 و1000 جثة.

من ناحية ثانية يتعرض الاختصاصيون العراقيون من اطباء واكاديميين لحملة اغتيالات مدروسة، ويعتقد الدكتور عصام الراوي العضو في لجنة علماء المسلمين ورئيس جمعية اساتذة الجامعات العراقية ان ايران والقوات الاميركية المحتلة مسؤولة عن قتل المثقفين والنافذين العراقيين، لان الاثنين يريدان تدمير العراق. ويذكر ان الفي طبيب فقط يعملون في العراق، وقد قُتل منذ الاحتلال 300 طبيب وهاجر كثيرون، كما تجري اغتيالات اساتذة الجامعات وبلغ عدد القتلى من بينهم 182 استاذاً. وقال جنرال عراقي سابق، ان قوات الاحتلال استهدفت في البدء العلماء العراقيين العاملين في المنشآت العسكرية، قسم قُتل وقسم اعتُقل، ويضيف، ان هناك خطة مدروسة وتُنفذ لقتل العقول العراقية جسديا، والتركيز الآن على الاطباء والاكاديميين، والهدف افراغ العراق من كفاءاته، واغلب هذه العمليات خصوصاً التي تقع في بغداد والموصل لا يتم تسجيلها.

الرافضون لتكليف الجعفري يعرفون ما تقترفه فرق الموت التابعة لبيان جبر صولاغ الذي استعمل وزارة الداخلية للانتقام عن سابق تصور وتصميم، وهناك من يقول انه يمكن للمجتمع الدولي ان ينقذ المجلس الاعلى من صولاغ، بوضع اسمه على قائمة مجرمي الحرب والمطالبة باعتقاله واحالته الى المحكمة الدولية في لاهاي.

ان ازمة الجعفري سوف تتكرر مع اسماء اخرى مطروحة، وقد انضم اليها احمد الجلبي ليكون مرشح مقتدى الصدر الجديد ومن الاسماء عادل عبد الهادي وارتباطاته الايرانية عميقة، حسين الشهرستاني ونديم الجابري الاثنان ضعيفان ولا يتمتعان بقاعدة شعبية ولهما ارتباطات ايرانية ايضاً، وإياد علاوي المقبول لدى السنّة، والاكراد، والاميركيين والدول العربية المجاورة للعراق، وله تاريخ سياسي وهو علماني وجريء، انما يحتاج الى دعم المرجعية الشيعية. آية الله السيستاني اقترح حلاً لأزمة الجعفري بان يعيد التحالف العراقي الموحد عملية انتخاب مرشحه لمنصب رئاسة الحكومة، وقال حامد الخفاف ان السيستاني دعا الى المحافظة على وحدة التحالف. العلاوي ليس في التحالف، والجعفري فاز على بقية مرشحي التحالف، والجلبي المتحالف حديثاً مع الصدر عجز عن الفوز بمقعد في البرلمان. لعبة الخلافات مستمرة في العراق وهي تجري تحت غطاء الاتفاق على مرشح لرئاسة الوزراء، في حين انها اعمق وتستعصي على الحل. عندما هزم صوت واحد عادل عبد الهادي لصالح الجعفري قال: ان اي حكومة جديدة لن تتمتع بشعبية ولن يكون في قدرتها البقاء اربع سنوات، ويحمل هذا القول الكثير من الابعاد والمؤشرات الخطيرة..!