الأستاذ والمعلم

TT

دعيت قبل يومين الى المشاركة في تكريم الكاتب الراحل ميشال ابو جودة، صاحب أشهر عمود يومي في الصحافة اللبنانية. وبكل حقيقة ووفاء قلت انني بدأت العمل الصحافي معه وتعلمت منه الكثير في السياسة الدولية ومتابعتها. وفي اليوم التالي صدر تقرير عن الندوة في «النهار» وفيه هذا الكلام. لكن العنوان لم يكن له علاقة بالنص: «ميشال ابو جودة كان معلمي». وأدركت بالتجربة ان واضع العنوان زميل ناشئ. اذ مما تعلمته من ميشال ابو جودة ايضا ان يكون العنوان دقيقا ومحددا: اصطدام قطارين في شرق الهند ومقتل 40 واصابة 200. وليس: كارثة حديدية في الهند وعشرات القتلى ومئات المصابين.

وقد اتصلت بالزميل الناشئ وقلت له ان «المعلم» كلمة لا تستخدم كل يوم. واحيانا ليس كل عصر. فقد وصف افلاطون بـ«المعلم». وقبله كونفوشيوس الذي اتبعه مئات ملايين الصينيين ألوف السنين. وليس في مهن الأرض «معلم» واحد.

هناك اساتذة كثيرون. ففي كلية الاقتصاد عشرات الاساتذة لعشرات المواد. وصدف يوما ان كنت على طائرة فيها وفد ياباني. وشرح لي رئيس الوفد وظيفة رفاقه. وكان اهمهم رجل لا عمل له سوى مراقبة سرعة المحرك. والباقي لكل برغي رجل.

يمرّ بالانسان عشرات الأساتذة. الدرس الكبير والدرس الصغير. ويدين لهم جميعا الى الابد. وعظّمت العرب قيمة العلم، فقال المثل «من علمني حرفا كنت له عبدا». والذي يكتب كل يوم هو طالب علم ومعرفة كل يوم. وعندما يتذمر ابني او ابنتي من وجود مصباح على طريق او من عقبة اصطناعية او من مستديرة مديدة، اقول لهما ان ذلك تم بعد عشرات التجارب وثبت بعد عشرات السنين. ومحظوظ هو اليافع الذي يسعد برفقة الكبار والإصغاء اليهم.

لقد صدمني العنوان وأحزنني. فهل لي حقا معلم واحد؟ وهل كان هذا المعلم الواحد من عملت في قسمه عاما واحدا؟ انني افيق كل يوم وأنا لا ادري من سيكون استاذي هذا اليوم. وما هو الدرس الذي سأندم لأنني لم اتعلمه منذ ثلاثين عاما. ومن هو الكاتب الذي سأشعر بالأسى لأنني لم أعرف قيمته قبل اليوم. أسوأ ما يحدث للطالب وربما لأي انسان، ان يشعر بأنه اصبح استاذا وان دروسه قد ختمت. هذا انتهاء. وادعاء المعرفة جهل قاطع وغرور. والغرور مصير الأجوفين والاخرقاء وفاقدي الاحساس بالمقاييس.

كان ميشال ابو جودة استاذا من اساتذة الصحافة اللبنانية. وكان من اوائل من خرج باهتماماتها من الضيق المحلي الى الآفاق العربية والدولية. وكان قارئا بقدر ما كان كاتبا. كما كان شجاعا. وقال عنه احد المشاركين في الندوة انه كانت من همومه محاربة المصطلحات الجوفاء في اللغات الآيديولوجية. واطلاع ال

ناس على حقائق الاشياء. ونزع الصفة الألوهية عن الحكام.