رائدة العولمة.. أمام الامتحان

TT

أن يصبح الشرق الاوسط، بعد احداث 9 سبتمبر الشهيرة، محور الاهتمامات الخارجية للحزبين الاميركيين الرئيسيين... أمر مسلم به في ظل الهواجس الامنية للدولة العظمى وتطلعها الطبيعي لان لا تقع، ثانية، في التجربة المؤلمة.

ولكن ان يصبح الشرق الاوسط، بكل دوله ومؤسساته، عنوان «الارهاب» الذي تحاربه الولايات المتحدة بمساعدة فعالة من معظم دول الشرق الاوسط... أمر يثير أكثر من سؤال عن إزدواجية المعايير السياسية لدى معظم اعضاء الكونغرس الاميركي ـ هذا إذا كان التخوف من «الارهاب» هو الخلفية الحقيقية لمعارضة العديد من اعضاء الكونغرس، وعلى رأسهم «السناتور» هيلاري كلينتون، للعرض التجاري الذي قدمته مؤسسة «موانىء دبي العالمية» لشراء حق ادارة عدد من الموانىء الأميركية.

هل يعقل ان تشكل صفقة محض تجارية خطرا سياسيا على »امن« الدولة الاعظم لمجرد انها آتية من الشرق الاوسط فتصبح الموافقة عليها خاضعة لمراجعة من جهاز الامن القومي الاميركي؟

وفي حال صحت دوافع هذه المخاوف، الا تشكل إثارتها استخفافا من قدرة الولايات المتحدة على حماية موانئها من «الارهاب» رغم كل الاجراءات الدقيقة والصارمة والمتشددة التي اتخذتها إدارة بوش منذ 9 سبتمبر 2001؟ وفي الوقت نفسه ألا تشكل تعريضا بسمعة دولة عربية صديقة للادارة الاميركية (على اعتبار ان حكومة دبي تملك حصة في مؤسسة الموانىء هذه)؟

مع ذلك يبقى أخطر ما في هذا الموقف اتجاه مشرعين في الدولة الاكثر مناداة بتحرير التجارة العالمية من القيود إلى تسييس التجارة العالمية تحت عنوان «9 سبتمبر» الفضفاض. وغير خاف ان نجاح دعوة بعض الأعضاء البارزين في الكونغرس إلى تبني قانون يخول الكونغرس اصدار الحكم النهائي في صفقة الموانىء لن يجعل هذا القانون مجرد سابقة عابرة «لتدخل» المشرع الاميركي في صفقة معينة، بل المعول الاول في ضرب سياسة العولمة التي تنادي بها الولايات المتحدة ،قبل غيرها، والتي أتاح مؤتمر الدوحة، في اطارها، الفرصة الفعلية الاولى للدول النامية (التي تشكل اليوم ثلثي اعضاء منظمة التجارة العالمية) للانخراط في آلية المفاوضات التجارية... ما يعني ان العولمة طريق باتجاهين: من الشرق الى الغرب كما من الغرب الى الشرق.

قد يكون أهم ما اتاحه مؤتمر الدوحة للدول النامية ـ إلى جانب عمليات التبادل الواسع للسلع الزراعية والصناعية ـ توسل تحرير الخدمات لتحقيق نقلة ملموسة في مسيرة عولمة الحركة التجارية، على اعتبار ان من شأن هذا التحرير تعزيز النمو الاقتصادي لعديد من الدول.

ربما كانت المرحلة الراهنة مرحلة صعبة في اقتصاد السوق وفي علاقات الدول الغنية والفقيرة ببعضها البعض. ولكن «عولمة الخدمات» تبقى جزءا لا يتجزأ من سياسة العولمة التجارية التي تصدت واشنطن للدفاع عنها في كل مؤتمر اقتصادي حضرته، من كانكون الى الدوحة الى الاراغواي الى هونغ كونغ...

إلا أن السؤال يبقى :هل المخاوف الامنية هي فعلا مبرر المواقف المعارضة لصفقة الموانىء أم الاعتبارات السياسية ـ الداخلية عشية استحقاق الانتخابات النصفية للكونغرس في أكتوبر (تشرين الاول) المقبل؟

قد تكون ظاهرة انقسام المواقف حيال الصفقة داخل الحزب الواحد وداخل العائلة الواحدة الجواب الواقعي على هذا التساؤل، فعلى صعيد الحزب الجمهوري يتخذ الرئيس الاميركي جورج بوش موقفا مغايرا لموقف دعاة توظيف التشنجات «الحضارية» في آلية الحركة التجارية العالمية، الى حد الاعلان عن معارضته لمواقف عدد من نواب حزبه الجمهوري، وهو موقف كان يتعذر عليه اتخاذه لو كان مرشحا للانتخابات النصفية ولو لم يكن في اواخر ولايته الرئاسية الثانية.

أما على صعيد العائلة الواحدة، فيبدو انقسام عائلة كلينتون بين هيلاري (ممثلة ولاية نيويورك في مجلس الشيوخ والمعارضة الرئيسية لصفقة «موانىء دبي») وزوجها بيل (الذي كسب 450 ألف دولار من محاضرات القاها في دبي عام 2002) مؤشرا آخر على ان اعتبار هيلاري كلينتون صفقة الموانىء الاميركية «مخاطرة غير مقبولة» كلام موجه، بالدرجة الاولى، الى الناخب اليهودي المؤثر في ولاية نيويورك، واستطرادا في الولايات المتحدة عامة، قبيل الانتخابات الرئاسية المقبلة التي تنوي خوضها، الامر الذي حملها لان تعير ادارة بوش بما يعتبره الجمهوريون نقطة ضعف الديمقراطيين: عدم التشدد في النظرة الى الشأن القومي الامني.

باختصار، سواء سمح الكونغرس الاميركي بهذه الصفقة أم جمدها، وسواء خرجت الصفقة من متاهات السياسات الانتخابية أم لم تخرج، تبقى مصداقية الولايات المتحدة كرائدة للعولمة المتضرر الاول من هذه القضية.