قمة لا تطيق احدا

TT

تبدو القمة فسيحة وفيها متسع للجميع. لكن اهلها لا يرونها كذلك. كل واحد يريدها له وحده. وقد اعتلى نزار قباني القمة لسنوات طويلة. وظل برغم ما بلغ العمر ما بلغ، يكتب وكأنه شاب يتنقل في اقبية باريس. والذين حاولوا ثنيه عن ذلك خسروه. وكنت بين الاستثناءات. فقد انضممت الى الذين طالبوه بأن يدرك ان نصف قرن قد مرّ على كتابة «قالت لي السمراء». وتناسى جريمتي. ولم يكن ذلك في طباع نزار.

وفي لقاءات عاقبة، ذكّرته بما كتبه عن ام كلثوم، العام 1974، عندما بدأ الكلام حول خلافة كوكب الشرق. يومها قال: «اذا كانت الغابات تيبس والانهار تجف والثمار تسقط والكواكب تأفل، فان حنجرة الانسان تخضع لنفس القوانين». وقال ان مطربة جلست على عرش الطرب خمسين سنة والآن اضطرتها القوانين البيولوجية والفيزيولوجية وعلم الانسجة للاعتزال...». والمقال طويل. ويمر فيه على احمد شوقي فيقول «لقد انطلت عليه كذبة امارة الشعر، ثم تبين بعد موته ان امير الشعر الحقيقي هو الشعر نفسه».

وفي قرارته كان نزار يحب ان تغني ام كلثوم شعره لكنها لم تغن من قصائده سوى نشيد صغير عنوانه «اصبح عندي الآن بندقية». وقد اضناه ذلك. وغنت له نجاة الصغيرة كما غنى له عبد الحليم حافظ ولكن نزار كان يريد الجائزة الكبرى. وعندما غنت ام كلثوم «هذه ليلتي» لجورج جرداق اواخر الستينات، شعر بغصة حقيقية. فقد جاءت الى بر الشام وخرجت من ضفاف النيل وبدل ان تنتقي من كروم اشهر شعراء المشرق في الغزل والحب، اختارت الشاعر المقّل وغنت له «فادنُ مني وخذ اليك حناني/ ثم اغمض عينيك حتى تراني».

لم يرد نزار الاقرار بتلك الهزيمة الشخصية الكبرى. غير انه كان يحلم ويسعى بأن تنقل «الست» شعره الى غابات السحر التي لم يصل اليها. لم يكن يريد ان يترك عربياً في آخر قرية لم يسمع بشعره. وام كلثوم كانت افضل واهم من ينقل الى كل الارجاء شيئاً من شعره. فقد كان التأليف لها مرتبة خاصة في عالم الشعر، فصيحاً وشعبياً. بل ان شعراء الفصحى خافوا من بيرم التونسي وحاولوا تقليده.

تذكرت معركة «خلافة» ام كلثوم بعد مرور 34 عاماً على وفاتها هذه الايام. فلا تزال دون عقب في عالم الغناء. واخطأ نزار حين اعتبر ان الامر في مثل هذه السهولة. لقد تغير حتى الغناء بعد ام كلثوم. وانطوى جيل العمالقة في الشعر واللحن والاداء. والحنجرة التي اعتبرها نزار واحدة من حناجر، لم تورث ذهبها وطربها لأحد. وبقيت «الست» مثل النيل وشوقي ووادي الملوك، بلا انداد.