قراءة سياسية في صفقة تجارية

TT

يوم ذكّر بنيامين فرانكلين، ألمع «الآباء المؤسسين» للولايات المتحدة، مواطنيه الاميركيين بأن التاريخ لم يذكر سابقة عن تقويض التجارة لأركان أمة ما لم يخطر في باله ان مشترعي أمته سيتبارون، بعد قرنين من الزمن، على تكذيب مقولته.. بدوافع مصلحية وعرقية في ما تطرح بلادهم نفسها كداعية، وراعية، للعولمة.

نادرا ما حركت صفقة محض تجارية مشاعر العداء السياسي للعرب والمسلمين في الولايات المتحدة كما حركها عرض مؤسسة «موانئ دبي العالمية» ـ المحبط ـ لشراء حق ادارة خمسة مرافئ أميركية. ونادرا ما تحولت صفقة تجارية الى «خطر أمني» كما جرى بالنسبة للشركة العربية.

أغلب الظن انه لو كانت المؤسسة صاحبة العرض اسرائيلية، لا عربية، لما أثير موضوع «الامن الاميركي» بشأنها.. ولو أثير، بفرضية بعيدة الاحتمال، لسارعت كل تنظيمات «اللوبي» الصهيوني الى التنديد بالدوافع «اللاسامية» الكامنة وراء اندفاع نواب أميركيين الى معارضة الصفقة.

في هذا السياق، ربما الآوان آن لأن يبدأ العرب بشهر سلاح «اللاسامية» في الولايات المتحدة ولو من باب التذكير بأنهم، هم ايضا، ساميون، و«الاخ» السامي المهدورة حقوقه.

مع ذلك، لم يكن تجاهل أكثرية النواب الجمهوريين دعوات رئيسهم في البيت الابيض، جورج بوش، للتعامل «بعقلانية» مع ما كان يفترض ان يكون صفقة تجارية عادية، مجرد موقف سياسي عابر بقدر ما كان موقفا يعكس المصالح الانتخابية لهؤلاء النواب، خصوصا ان استطلاعات الرأي حيال الصفقة أظهرت معارضة ثلاثة ارباع الاميركيين لها.. ولاسباب غير تجارية، كي لا نقول عِرقية أو «لا سامية».

وأن يتبارى نواب الحزبين الجمهوري والديمقراطي في المزايدة على بوش بتفانيهم في وقاية أمن الولايات المتحدة من «انتهاك» شركة عربية له، يعكس بدوره رغبة هؤلاء النواب الدفينة في الابتعاد قدر الامكان عن سياسة بوش بعد ان اظهر استطلاع آخر للرأي أن شعبيته بين الاميركيين انحدرت الى أدنى مستوى لها (34 في المائة فقط يؤيدون سياساته).

لكن الاستنتاج الاكثر اثارة للقلق في خلفية تصرف نواب الحزبين الاميركيين الرئيسيين حيال صفقة الموانئ هو انسياق نواب الحزبين وراء الشارع الاميركي وانحيازاته الانفعالية في كل ما يتعلق بالشأن العربي والإسلامي.. عوض توجيهه وقولبته، ما يسمح بالقول ان الضحية الاولى لـ 9 سبتمبر 2001 لم يكن «الامن» الاميركي، بل الرأي الاميركي «العقلاني».

وإذا جاز استخلاص عبرة سياسية من هذا الوضع فقد يكون التحسب بأن لا خير يرجى للعرب من أي موقف مرجعه الكونغرس الاميركي.

مع ذلك قد لا يقاس انكشاف مشاعر الشارع الاميركي تجاه العرب والمسلمين ـ والمعروف اصلا ـ وانسياق العديد من نواب الكونغرس وراءها، بالإساءة التي ألحقها النواب الاميركيون بسمعة بلادهم في الخارج.

لو كان الامن القومي الاميركي هو رائدهم، لا ذريعتهم، لطرحوا المطالبة بتشديد الاجراءات الامنية المطبقة في الموانئ الاميركية ـ والصارمة اصلا ـ شرطا مسبقا للموافقة على الصفقة، علما بأن ابرز مؤيدي هذه الصفقة، الرئيس جورج بوش، هو رأس حربة مواجهة «الارهاب» وقائد الحملة الدولية عليه أينما كان.. فهل يعقل ان يحاربه بهذه الضراوة في الخارج ويتساهل معه في الداخل؟.

موقف نواب الكونغرس المعارضين للصفقة قد يكون أثمن هدية يقدمها المشترع الاميركي لمعارضي العولمة في العالم أجمع، وفي الدول النامية تحديدا. فإذا كان يحق لدعاة تحرير التبادل التجاري من القيود الحمائية العودة، باقتراع عادي، الى سياسة الحماية في وقت بلغ فيه العجز في ميزان التجارة الاميركي مستوى قياسيا، فمن تحصيل الاصل ان يحق لشعوب العالم النامي ان تعود الى سياسة الحماية، خصوصا انها الشريك الاضعف في نظام العولمة التجارية.

على ضوء هذه الخلفية التشريعية ـ التجارية لعلاقة العالمين العربي والإسلامي بالولايات المتحدة، أصبح مبررا اعتبار الولايات المتحدة سوقا «غير موثوقة» للرساميل والاستثمارات العربية، وأصبح مطلوبا تعزيز توجه الاستثمارات والرساميل العربية نحو السوق العالمية البديل للسوق الاميركية، أي سوق الاتحاد الاوروبي، علما بأنها سوق واعدة، ومن حيث عدد «المستهلكين» فيها، سوق أكبر من السوق الاميركية ومن حيث نوعيتهم، أكثر «عقلانية» من الاميركيين.