جنبلاط ودمشق: حكاية مشكلة بدأت قبل 28 عاماً.. وفي مثل هذا اليوم !

TT

في مثل هذا اليوم السادس عشر من مارس (آذار) قبل ثمانية وعشرين عاماً بدأت مشكلة وليد جنبلاط مع سوريا وهي مشكلة بقيت ثأراً نائماً في صدر رجل، يوصف بأنه سريع التقلبات، ولم تتشظ كقنبلة موقوتة شديدة الإنفجار إلا بعد ان دارت الدوائر على التواجد الأمني والعسكري السوري في لبنان عشية إصدار قرار مجلس الأمن رقم 1559، وعشية التجديد للرئيس اللبناني إميل لحود لنصف ولاية جديدة مدتها ثلاثة أعوام.

في صبيحة يوم السادس عشر من مارس (آذار) عام 1977كان كمال جنبلاط على الطريق الى قصر المختارة، قصر العائلة التاريخي، وكان يجلس على المقعد الخلفي في السيارة الخاصة التي إعتاد ان يستقلها يومياً بين مكان إقامته الدائم في هذا القصر المشار إليه والعاصمة بيروت وكان ينهمك في مطالعة إحدى الصحف اللبنانية المحلية بينما مرافقه الذي هو حارسه الشخصي كان يجلس في المقعد الأمامي الى جانب السائق.

وفجأة عندما وصلت السيارة الى منعطف على الطريق إضطرها لتخفيف سرعتها، كما في كل يوم، إنطلقت نحوها زخات من الرصاص من بنادق الـ «كلاشينكوف» السوفياتية الصنع وكان المطلقون عددا من «مجهولي الهوية»، إستهدفوا رأس كمال جنبلاط فأصابوه إصابة مباشرة أدت الى تناثر قطع دماغه على صفحة الصحيفة التي كان يطالعها.

وبالطبع وكما في كل مرة يقتل فيها قائد لبناني غدراً وغيلة، فقد إنفجر الغضب الطائفي وتحول الى عمليات ثأر دموية طالت أبناء الطائفة المارونية من أهل القرى والبلدات «المسيحية» المتناثرة في هذه المنطقة، والذين يجمعهم جوار تاريخي وعيش مشترك مع أبناء الطائفة الدرزية المتناثرة قراهم هم بدورهم حول «المختارة» في المنطقة ذاتها.

وبالطبع أيضاً فإن مسؤولية تلك الجريمة النكراء جرى تعليقها على مشجب الحرب الاهلية اللبنانية التي كانت في ذروة إشتعالها، والتي باسمها اقترفت جرائم كثيرة من بينها جريمة إغتيال مفتي لبنان حسن خالد والشيخ صبحي الصالح والرئيس الاسبق رينيه معوض ورئيس الوزراء السابق رشيد كرامي، والصحافي الكبير سليم اللوزي ونقيب الصحافة رياض طه، والعديد من الصحافيين والقادة السياسيين والكتاب.

كان كمال جنبلاط، الذي كان أهم أعمدة التحالف الوطني اللبناني ـ الفلسطيني غير راضٍ عن التدخل العسكري السوري في لبنان. ولعل ما عزز خشيته من هذا التدخل ومخاوفه منه أنه جاء بترحيبٍ وبمباركة من القادة السياسيين للطائفة المارونية، وفي طليعة هؤلاء كل من سليمان فرنجية وكميل شيمعون وبيار الجميل.

لقد كانت القوات المشتركة لتحالف المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية تشن هجوماً كاسحاً في إتجاه المناطق المسيحية ـ المارونية في شرقي بيروت، وكان بعض قادة هذا التحالف ومن بينهم صلاح خلف (أبو إياد) يرفعون شعار: «الطريق الى فلسطين تمر من جونية»، بينما كان كمال جنبلاط يسعى لإلحاق هزيمة مدمرة بالمارونية السياسية تغير المعادلات الطائفية السابقة وتجرد الموارنة من الامتيازات التي حصلوا عليها قبل «الإستقلال» وبعده.

وهنا فإنه لابد من الإشارة الى أنه لم يكن أمام زعماء الموارنة بصفة خاصة والمسيحيين بصفة عامة في تلك الفترة الصعبة سوى خيارين لا ثالث لهما وهما: إما الإتجاه نحو تل أبيب أو الإتجاه نحو دمشق، ولقد وجدوا أن الأسلم لهم ولطائفتهم على المدى التاريخي هو ان يستعينوا بسوريا التي كانت تجمعهم بها رغبة مشتركة، هي تحجيم منظمة التحرير وإضعاف الحركة الوطنية اللبنانية، التي كان موقع كمال جنبلاط فيها كموقع ياسر عرفات (أبو عمار) بالنسبة للمقاومة الفلسطينية.

في صبيحة يوم السادس عشر من مارس (آذار) عام 1977، كانت علاقات سوريا بالحركة الوطنية اللبنانية بقيادة كمال جنبلاط لا تزال مشوبة بالتوتر. وكانت القيادة السورية تعتقد ان جهات عربيةً من بينها الرئيس المصري السابق أنور السادات وقيادة «البعث العراقي» بزعامة صدام حسين، الذي لم يكن قد أصبح رئيساً للعراق بعد، هي التي تقف وراء تمرد الفلسطينيين والوطنيين اللبنانيين عليها، وكذلك فإن دمشق كانت ترى أنه عليها ان تخوض معركتها مع هؤلاء في بيروت، وليس في القاهرة أو بغداد ولا في اي مكان آخر.

قبل مقتله غيلة، بالطريقة المشار إليها، كان كمال جنبلاط قد إتفق مع «رفيق السلاح» ياسر عرفات على الإلتقاء في القاهرة لحضور دورة المجلس الوطني الفلسطيني التي إنعقدت في الفترة ذاتها. ويبدو أن الزعيمين الفلسطيني واللبناني كانا قررا ان يلتقيا الرئيس السادات الذي كان قد قطع خطوات رئيسية على طريق الحل السلمي مع إسرائيل الذي أوصله لزيارة الدولة العبرية وإلقاء ذلك الخطاب التاريخي الذي ألقاه من فوق منصة الكنيست الاسرائيلي، والذي ذهب به لاحقاً لتوقيع إتفاقيات كامب ديفيد المعروفة في الولايات المتحدة.

ولذلك وحسب تقديرات الذين إتهموا سوريا والذين لا زالوا يتهمونها بإغتيال كمال جنبلاط، فإن مثل هذا اللقاء الثلاثي الآنف الذكر لو أنه حصل فعلاً، فإنه كان سيعيد خلط الأوراق مجدداً في لبنان، وإنه على أقل تقدير سيخلق الكثير من الإشكالات والمصاعب للقوات السورية، التي إستند دخولها الى الأراضي اللبنانية الى فرصة سياسية محلية وإقليمية عالمية، ما كان من الممكن ان تتوفر مرة ثانية لو أنه لم يتم إستغلالها في اللحظة المناسبة.

في كل الأحوال لقد وجد وليد جنبلاط، الذي كان لا يزال على هامش حتى الحياة السياسية لوالده، نفسه في ذلك الوقت أمام مهمة عسيرة وحاله كحال إمرئ القيس عندما قال: «اليوم خمر وغداً أمـر لا صحو اليوم ولا سكر غدا» ولعل أولى خطوات زعامته هذه، التي تكرست وعلى نحو لا يقل عن زعامة كمال جنبلاط بل وربما أكثر، أنه بعد ان ألبسه عقلاء الطائفة الدرزية عباءة الزعامة دفن ثأره في صدره وأنه تصرف خارج دائرة ضغط هذا الثأر، وأنه أبطن غير ما أظهر إنتظاراً للحظة التي حسب رأيه غدت سانحة عندما إضطربت المعادلات السياسية اللبنانية والإقليمية والدولية أيضاً، وكانت النتيجة صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559.

لقد تعلم وليد جنبلاط الحكمة من رأس والده الذي فجره الرصاص «المجهول» صبيحة يوم السادس عشر من مارس (آذار) عام 1977 ومن رؤوس كثيرة تدحرجت بهذا الرصاص «المجهول» في أوقات لاحقة، ولذلك فإنه بقي يردد ذلك البيت من الشعر الذي يقول:

ومن نكد الدنيا على المرء أن يرى

عدواً له لا من صداقته بدُّ

ويقال هنا، وهذا غير مؤكد وربما هو مجرد تلفيقات، ان وليد جنبلاط عندما زار دمشق بعد مقتل والده بفترة نحو شهرين، خاطبه الرئيس الراحل حافظ الأسد لدى إستقباله له في القصر الجمهوري: «يا سبحان الله.. إنك تشبه أباك.. الخالق الناطق.. لقد كان يجلس أمامي على هذا الكرسي نفسه الذي تجلس عليه الآن ونصحته.. لقد نصحته رحمه الله لكنه لم ينتصح وكانت النتيجة أنه دفع ذلك الثمن الذي دفعه.. ونصيحتي إليك هي ألا تقع في الخطأ الذي وقع به أبوك وتدفع نفس الثمن الذي دفعه».

إذن، وبغض النظر عن مدى صحة إتهام سوريا بإغتيال كمال جنبلاط، فإن ما ثبت بعد صدور القرار رقم 1559ورحيل القوات السورية عن لبنان، هو ان مشكلة وليد جنبلاط التي تفجرت مرة واحدة مع دمشق، لم تبدأ بعد صدور هذا القرار المشار إليه آنفاً، وإنما بدأت بعد مقتل والده في مثل هذا اليوم قبل ثمانية وعشرين عاماً، ولكنه والأسباب هنا معروفة بقي يدفن الثأر في صدره، وبقي يتحين الفرص خلال كل هذه الأعوام الى أن لاحت الفرصة المناسبة في اللحظة المناسبة فتفجر كلغم مؤقت مرة واحدة.