.. ومن باب الاحتراز أسدلت الخمار!

TT

إن كان أعمى أو أنه يتعامى لا أحد على وجه الدقة قد استطاع أن يرسو على بر اليقين في قضية إبصار «دحمان»، حتى جاره «حمودة» كان يفرض ـ من باب الاحتراز ـ على زوجته أن تسدل خمارها على وجهها إذا ما جاء دحمان يطلب قبسا، وقد غدت كركرة «أرجيلته» المختلطة بنوبات سعاله لحنا ليليا ينام على ضجيجه الجيران، وهم الذين ألفوا أن يصطبحوا بوجه «دحمان»، وهو يجلس القرفصاء كدمية محطمة على نتوء خارجي في الجدار.. هناك اعتاد أن يستمع لنشرات الأخبار من مذياع عتيق ثبت مؤشره منذ أعوام على إذاعة لا يرى لسواها أية مصداقية.. وهناك أدمن اكفة الجيران وهو يحلل أسباب العدوان الثلاثي على مصر، وحلف بغداد، وخطورة القوة الغافية شرق الخليج إن أفاقت ذات مساء.. شكل هذا الكلام بالنسبة لبسطاء الناس الذين يعيشون في الجوار آنذاك طلاسم وألغازا وضربا من الهذيان، فتعددت النعوت التي أطلقوها عليه ما بين شيوعي ومخبول وفيلسوف، ولعلهم على وجه الدقة لا يدركون ماذا تعني تلك النعوت.

دحمان يعرف الناس من وقع خطواتهم، لذا فهو يبادرهم بسخرية الصباح باسمائهم، حتى حينما استبدل حمودة حذاءه ـ عشرة العمر ـ بآخر جديد مصنوع من إطار إحدى السيارات لم يفت ذلك أيضا على دحمان فبادره بالقول: «يبلى بعرق العافية.. يكفيك شر مشاويره ولصوص الأحذية ومسامير الطرقات».

ويروي «دحمان» أنه فقد بصره حينما كان في السابعة من العمر في سنة الجدري، وأن ذهنه لم يعد يحتفظ بغير وجه بنت الجيران، فيصف شعرها بضفائر الغسق، ووجهها بتباشير الصباح، ويقول: «كنت ألعب معها لعبة العسكر والحرامية، فأمثل دائما دور الحرامي الساذج الذي يسمح للعسكري بالقبض عليه، وأصاب بدوار الفرح حينما يلامس كفها معصمي لتعلن انتصارها علي»، وغالبا ما كان يختتم حديثه معلقا بأن عدم قدرته على رؤية وجهها أفدح خسائره كإنسان. لم يكن لدحمان عمل يقتات منه سوى القراءة على الموتى، لذا كانت ثورته عارمة حينما كف الناس عن جلب المقرئين في المآتم أو الاستعانة بالتسجيلات الجاهزة، وقد اضطر في آخر الأمر إلى أن يعمل «مصلح ساعات»، أو ذلك ما ادعاه ساخرا حينما طلب منه موظف الأحوال المدنية معرفة مهنته التي ينبغي أن يسجلها في بطاقة الأحوال. عندما وجدوه ميتا يقال إن عينيه كانتا مفتوحتين لآخر مداهما، وإن البيت الذي اتكأ على جداره ليسلم الروح بجواره كان بيت بنت الجيران!

وها أنا أكتب عن «دحمان»، رغم يقيني بأن كبرياء التاريخ لا يتوقف عند موت البسطاء، لكنني أشعر أن لسيرة «دحمان» طقسها الخاص الذي يشكل حالة استثناء.. لم لا؟!

[email protected]