الذكرى الثالثة... ودبلوماسية التشكيك

TT

مرت الذكرى الثالثة لاجتياح العراق في واشنطن، هذه السنة، مرور الكرام: شوارع العاصمة الاميركية خلت من التظاهرات الصاخبة، وحتى الاعتصامات المألوفة قبالة البيت الابيض غابت عن النظر... رغم ان الذكرى كانت مناسبة للاعلان عن ان ضحايا الجيش الاميركي في هذه الحرب بلغ عددهم 2313 قتيلا والجرحى17 ألفا.

وسط هذا المناخ من «اللامبالاة» الشعبية بالذكرى، اقتصرالتعبير عن موقف الاميركيين من الحرب، في عامها الثالث، على استطلاعات الرأي التي كشفت نتائجها تراجع نسبة مؤيدي اسلوب الرئيس جورج بوش في التعامل مع الحرب الى 29 في المائة بالمقارنة مع 69 في المائة في الاشهرالاولى لغزو العراق... وهي نسبة توازي أدنى مستوى انحدر اليه تأييد الاميركيين للرئيس الاسبق، ريتشارد نيكسون، في أعقاب فضيحة «ووتر غيت».مع ذلك لم يصل رفض الاميركيين لتداعيات حرب العراق، بعد، الى مستوى نفاذ الصبر الذي اختبروه حيال حرب فيتنام. فالاميركي العادي لا يبني موقفه من الحرب على كلفتها البشرية فحسب ـ وعدد قتلاه في العراق لا يزال «مقبولا» ـ بل على تأثير هذه الحرب على وضعه المعيشي والاقتصادي في بلاده.

ورغم الكلفة المتزايدة لحرب العراق، لا تزال تداعياتها الاقتصادية في الداخل محدودة نسبيا، فالاقتصاد الاميركي لا يواجه خطر تضخم مالي حثيث ولا يعاني من تراجع يذكر في الانفاق الاستهلاكي... ربما لكون المقاربة الاقتصادية ـ المالية للحرب أبعد نظرا من المقاربة السياسية والعسكرية لها. فإدارة بوش لم تحمل «المكلف الاميركي» بشكل مباشر الاعباء المالية للحرب مفضلة زيادة استدانة الخزينة على زيادة معدلات الضرائب فحملت، بذلك، اسواق المال العالمية جزءا من هذه الاعباء «كفرق عملة» في سعر صرف الدولار.

وهكذا، والى حد ما، تحول الاحتلال الاميركي للعراق في أذهان الاميركيين العاديين الى «أمر واقع» آخر في الشرق الاوسط قد يضاف يوما ما الى سابقة مماثلة في المنطقة: الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية.

بيد ان السنة الثالثة لاحتلال العراق شهدت تحولا واضحا في أولويات واشنطن، فاستنادا الى وثيقة «استراتيجية الأمن القومي» الاميركي ـ التي نشرت في 16 مارس (آذار) الحالي ـ تجاهلت إدارة بوش، وللمرة الاولى منذ احتلال العراق، طرحها السابق لنظرية «الضربة الوقائية» لتركز على هدف مبدئي سام هو: تطوير الديمقراطية في العالم. ولكن هذا الطرح الايديولوجي ـ المبدئي طغت عليه، بالمقابل، لهجة الوعيد والتهديد في وصف وثيقة الاستراتيجية القومية الاميركية للخطر الايراني، فقد اعتبرت واشنطن انها لم تواجه «تحديا من دولة واحدة» كما تواجه اليوم من برنامج ايران النووي، واتهمت النظام الايراني «بتمويل الارهاب وتهديد اسرائيل والسعى لإفشال سلام الشرق الاوسط وعرقلة الديمقراطية في العراق».

دعوة للديمقراطية في العراق وسورية ولبنان... وتهديد بالويل والثبور وعظائم الامور في ايران؟... أي شرق أوسط تريد واشنطن؟

بعد فشلها الفاضح في اكتشاف اسلحة دمار شامل او أسلحة كيماوية أو بيولوجية في ترسانة صدام حسين أصبحت «مصداقية» الدبلوماسية الاميركية، وزعامتها «الاخلاقية» للعالم مدعاة تشكيك من جانب حلفائها قبل خصومها واصبحت نظرة البعض الى الدعوة الديمقراطية الاميركية أشبه بنظرتهم الى الدعوة الشيوعية إبان الامبراطورية السوفياتية: مدخلا الى وصاية غير مباشرة على الشعوب.

موقف الادارة الاميركية من احتمال تطوير ايران لسلاح نووي كان يمكن ان يتخذ طابعا «اخلاقيا» لو أنه طرح في إطار «سلة متكاملة» Package Deal تتبنى تحويل الشرق الاوسط بأكمله ـ بما في ذلك اسرائيل ـ الى منطقة خالية تماما من السلاح النووي. أما ان تعتبر واشنطن البرنامج النووي الايراني غير المكتمل بعد «تهديدا» لإسرائيل ولا تعتبر الترسانة النووية الاسرائيلية الجاهزة تهديدا لأحد، فهو موقف لا يلمع صورة الديمقراطية التي تدعو اليها بقدر ما يؤكد اهتزاز مصداقية أي طرح سياسي أميركي.

باختصار، وبعد ثلاث سنوات من اجتياح العراق، لا تستطيع الادارة الاميركية أن تتبرأ من تصرفاتها السابقة، أو تشجع المراهنين على جدية سعيها لإرساء قواعد الديمقراطية في الشرق الاوسط باكمال المسيرة معها، خصوصا في الدولتين المستهدفتين أكثر من غيرهما بهذه الحملة الديمقراطية: العراق ولبنان.

ما تحتاجه واشنطن اليوم، قبل طرح أي صورة مستقبلية للشرق الاوسط ، أن تبدأ بصياغة سياستها حيال المنطقة انطلاقا من الاخذ في الاعتبار ان التشكيك في نواياها أصبح أكثر العوامل المؤثرة على المواقف الدولية من طروحاتها.