.. ومع شيراك الحق..!

TT

في 25/3/2006، نشرت الصحف خبر مغادرة شيراك قاعة اجتماع القمة الأوروبية غاضبا إثر سماعه مواطنه الفرنسي، رئيس لوبي الأعمال الأوروبي، يلقي كلمته بالإنجليزية.

عندما قرأت هذا الخبر ابتسمت وقلت: والله معه حق. إنه لم يخطط، أتصور أنه لم يتوقع، أن يسمع فرنسيا يلقي خطابا بأي لغة أخرى غير لغته الأم، لقد انزعج شيراك انزعاجا حقيقيا، لا علاقة له بمنصبه الرسمي، سببه الفعلي اعتزازه بلغته التي يراها جزءا لا يتجزأ من كرامته الشخصية. لقد أحسست بشيراك وفهمته لأن هذا تماما شعوري وحالتي عندما أستمع إلى مسؤول رسمي في بلادنا يهجر اللغة العربية ويتباهى بالرطن بلغة أجنبية في محفل دولي ومحلي أو من دون محفل على الإطلاق. لقد مسَّ موقف شيراك وجعا مزمنا في قلبي، وذكرني بما حدث عام 1969 عندما وقف الدكتور حسين فوزي ـ الشهير بلقب «سندباد مصري» ـ يلقي كلمة «مصر» الرسمية باللغة الفرنسية في افتتاح المهرجان الآسيوي الأفريقي الثقافي، الذي عقد بالجزائر، كنت حاضرة ذلك الموقف مستحضرة أننا في «الجزائر» المحررة من الاحتلال الفرنسي، وأن الكلمة يلقيها ممثل رسمي عن الجمهورية «العربية» المتحدة، وأن «الزمان» و«المكان» لا يرحبان أبدا بتلك المباهاة المتدنية بفصاحة الدكتور حسين فوزي في اللغة الفرنسية. جاءني من جاء من المثقفين والشعراء من أقطار عربية أخرى يؤنبونني: ما هذا؟ كيف يحدث ذلك؟ خطاب «مصر» باللغة الفرنسية؟ ـ ومنهم من قال «مصر عبد الناصر» باللغة الفرنسية ـ شاركتهم الخجل والاستنكار وأعلنت لهم تبرؤي الشخصي من فعلة الدكتور ـ المعروف عنه التعصب لمصر الفرعونية ـ وقلت مازحة: والله كان من الأرحم لو ألقى خطابه بالهيروغليفية! وعندما واجهت الدكتور حسين فوزي برد الفعل الغاضب من لغة خطابه، هز كتفيه بلا اكتراث وقال: «الترجمة من العربية للفرنسية ستكون سيئة»! قلت: «طيب يا دكتور وهل ضمنت ترجمة لكلمتك من الفرنسية الى العربية؟» قال مندهشا: «وهل هذا من الأهمية؟ روحي.. روحي.. بلاش دوشه!»، ومضى يقهقه معتمدا على خفة ظله التي اشتهر بها.

لم ينفرد «حسين فوزي» بهذه المخالفة، فقد دأب العديد، إلا من رحم ربي، على هذه المخالفة المسيئة للشعور القومي والاعتزاز الشخصي بلغتنا العربية، وإن كان الملاحظ أن فصاحة الدكتور حسين فوزي، في اللغة الفرنسية، لم تتوفر دائما لمن ينغمسون، في معظم خطاباتهم وحواراتهم، في الارتكان على لغة إنجليزية مضعضعة لاغية.

وقد كان الرئيس الراحل أنور السادات مغرما باستعراض مهاراته اللغوية في كل اللغات ـ حتى الفارسية ـ رغم أنها لم تكن ماهرة لا من قريب ولا من بعيد، وما زلت أتذكر افتخاره أمام الصحفيين الأجانب بقول: «ماي وايف إز هاف إنجليش»! ـ أي أن زوجتي نصف إنجليزية! ـ ولقد ساد في أقطارنا العربية، ومصر على وجه الخصوص، الاتجاه الى التحدث باللغة الإنجليزية أو خلطها في قبح شديد مع اللغة العربية العامية والفصحى، حتى أصبح من المألوف نشر إعلان باللغة الإنجليزية في صحيفة قومية ناطقة باللغة العربية، وأصبحنا نجد متحدثين في القنوات الإذاعية المرئية وغير المرئية يترجمون ما يقولونه بالعربية إلى الإنجليزية، وتكون الكلمة بسيطة ومفهومة تماما للمشاهد العربي باللغة العربية، فيقول المتكلم، والكاتب في الصحف كذلك، «ثقافة» ـ مثلا ـ ثم يعيدها بكل استعلاء «كلتشر»! كأن المعنى لم يصل إلا بهذا التتويج باللغة الأجنبية! ناهيك عن «وباء» المذيعات اللاتي لا تسعفهن الكلمة العربية فينفشن أنوفهن بالمقابل الأجنبي: «بوتنشل»، «توك شو»، «نيولوك»، «أبسليوتلي!»، ويرتسم «السم الناقع» على ملامح الوجه الغبية!.

ولقد بلغت أوجاع المرارة قمتها أثناء الاحتشاد الكروي لتشجيع الفريق المصري في الدورة الأفريقية، فقد تم إبراز، من أسموهن حفيدات حتشبسوت ونفرتيتي وكليوباترا، اللاتي كتبن اسم «مصر» على صدورهن باللغة الإنجليزية/ الأمريكية/ «إيجبت»، واعتبر البعض، من الكتاب والكاتبات، هؤلاء الفتيات المتنصلات من لغة بلادهن، الوجه «الحضاري» المشرف لمصر، والذي طال «احتجابه»! مؤكدين بهذا أن وجه مصر «البهية أم طرحة وجلابية»، هي «المعرة»، وشاهد التخلف عن ركب «التقدم» الذي نسعى إلى تحقيقه حثيثا، لولا فضائح: «غرق العبارة وموت الألف مواطن»، وعشوائيات «مقاومة» أنفلونزا الطيور، التي هي أشد فتكا من لو ترك المرض من دون «مقاومة»، و«الحرائق.. الحرائق» في أشد الأسواق التجارية ازدحاما وشعبية في قلب القاهرة «الفاطمية» و«المملوكية»، والقريبة جدا من المركز الرئيسي لقوات الإطفاء.

وعلى العموم، كما تقول أغنية «الشيخ إمام/ نجم»، لقد هلت «شمس البشاير»، فقد انعقد مؤتمر توحيد وتجميع القوى «العلمانية»، للخلاص من هيمنة الدين، فبشرى بشرى لبني «إيجيبت»، إذ اجتمع الخلاص من «اللغة» و«الدين»، وغدا سوف تكون الصرخات «هلب... هلب... فاير... فاير»، بدلا من «إلحقونا... حريقة... حريقة...»، وسيكون من المطلوب تدخل «المجتمع الدولي»، بعد عبور حاجز «اللغة» و«الدين»، ويتحقق وعيد «الباشا» الذي هدد به عام 1956، عند الغزو الثلاثي لمصر من إنجلترا وفرنسا والكيان الصهيوني، قال سعادته: «بكره الخواجه ييجي يأدبكم!»

ربنا لا تؤاخذنا بما يجره السفهاء علينا..!