ليلى 6 أبريل السودانية

TT

ظل تاريخ السادس من أبريل منذ 1985 في الذاكرة العربية يعاني من اختزال قسري عند اسم واحد هو المشير عبد الرحمن سوار الذهب، باعتباره من أذاع البيان الذي اسقط 16 عاما من حكم ما عرف بثورة مايو 1969، وتلاحق ليصبح نظام المشير جعفر نميري، الذي التصق بصورة سيامية مع تطبيقات رعناء للشريعة الاسلامية على هدى ما عرف بقوانين سبتمبر. والى ذلك بقي احتلال سوار الذهب واختزاله في الذاكرة العربية لسائر خصوصيات وفسيفساء الحدث السوداني، اعتمادا على إرسائه لسابقة التخلي عن الحكم والوفاء بالتعهد الذي قطعه بإعطاء نفسه مهلة عام واحد يسلم بعده الحكم لحكومة منتخبة، وذلك ما حدث.

ولكن 6 أبريل 1985 في الذاكرة السودانية إنداح في اتجاهات متعددة غنّى معها كل طيف سياسي على ليلى أبريل على هواه، أو كما يريد . فالشيوعيون أكبر المكتوين بنظام نميري، وبين من دفعوا أقسى الفواتير من أعناق قادتهم الذين أعدم نميري منهم عبد الخالق محجوب والشفيع أحمد الشيخ وبابكر النور مع آخرين، مع إجهاض انقلاب هاشم العطا في 19 يوليو 1971، اعتبروا 6 أبريل انطلاقة جديدة يحيون معها عصر الجماهير ووهج الشوارع الغاضبة، بل والاقتصاص من سدنة نظام نميري. وحزب الأمة الذي قتل نظام نميري منه الهادي المهدي إمام طائفة الأنصار، وسحل المئات في معارك الجزيرة أبا عام 1970، رأوا في أبريل فرصة ثأر أخرى فيما تركزت كل حركة وفلسفة الحزب في شخص الصادق المهدي، الذي خاض الانتخابات ببرنامج أسماه نهج الصحوة إشارة الى الصحوة الإسلامية. والجنوبيون، بالوقوف مع الحركة الشعبية لتحرير السودان التي كانت قد فجرت تمردها على مقربة من الحدث في 15 مايو 1983، رأت في أبريل حركة مايو ثانية، أو May 2، كما سماها جون قرنق، فأبقت على مشروعها لحمل ورفع السلاح في وجه ثورة وليدة ثم تجربة ديموقراطية هشة، فكان أن اندحرت كل التجربة قبل أن تكمل عامها الرابع في يونيو 1989 بانقلاب خططت له الجبهة الاسلامية القومية التي كان ترابي قد أنشأها في 1985 وحصد بها في التجربة الديموقراطية نحو 52 مقعدا أمام دهشة الشارع السوداني، ولكأن الإسلاميين في السودان قد رأوا في أبريل «محطة ترانزيت» يلهون ويخوضون فيها مع الخائضين ليستلون سكاكينهم ودباباتهم لاحقا لينقضوا عليهم .

من تفاصيل ذلك النسيج اشتملت وتمنطقت ولبست دروعها انتفاضة أبريل، فبدت للخارج العربي في صورة سوار الذهب، وللداخل السوداني طفلة جميلة تختزن تاريخا ومرارات غلب فيها البحث عن الثأر على البحث عن خطاب سياسي يستفيد من الأخطاء التاريخية منذ الاستقلال. فبدت الطفلة كبريئة ترقص في حجرة البيت الشمالية والرصاص ينهش جسمها مصوبا من غرفة البيت الأخرى في الجنوب، وطلقات الرصاص تعكر صفو نومها حين تنام فتسلم نفسها لكوابيس وكوابيس وكوابيس، الى أن ماتت على يد فصيل من سكان البيت هم جماعة الإسلام السياسي.

بعدت الفجوة بين الخطاب والممارسة لدى رموز وسياسيي وأحزاب السودان، وفتح عرس أبريل أبوابه لأرض السودان فأخرجت أثقالها، فامتلأت ساحة السودان السياسية، علنا وفي وضح النهار، بتنظيمات وأحزاب مستوردة ومعفية من رسوم الجمارك، فاعترك هناك البعث العراقي مع البعث السوري مع الناصريين بل وجماعة الكتاب الأخضر والمنظمات الثورية. وكان أن عاشت الديموقراطية الثالثة التي جاءت مع 6 أبريل 1985 مناخا لا قبل لديموقراطية به. جموع وطوائف وأحزاب تغني جميعها للوافد الجديد، ولليلى أبريل، ولكن من دون قائد للأوكسترا، ومن دون بروفات للحن واحد، أقرب ما يكون الأمر الى زفة دراويش أو فرقة «حسب الله». مارس الجميع هواية الغناء بمكبرات الصوت والحلاقيم الرحبة بدون حساب لعمر طفلة وتركة ماض، فأسلمت الروح، بدون أن تتساءل ذاكرة السودانيين الجمعية بسؤال بديهي هو: وإذا الموؤودة سئلت .. بأي ذنب قتلت. ومع ذلك فموتها ليس من نوع موت البشر أو النبات، ذلك موت آخر يكون فيه الميت ماثلا مع الحاضر، دفينا فيه، مشاركا في المستقبل، ولكن كل ذلك أيضا يكون وقفا على من يحسن قراءة فن التاريخ، كما اسماه شيخنا ابن خلدون.

[email protected]