.. وأين هو غضب العالم..؟

TT

«يجب أن نشعر بالخجل أن هذه الأمور تجري في وقتنا الحاضر: أين غضب العالم؟». كان هذا ما قاله الناطق الرسمي باسم مجلس النواب الأمريكي، بعد أن اتخذ مجلس النواب الأميركي قراراً يجيز عقوبات إضافية على حكومة الخرطوم بشأن دارفور. «وبعد اتخاذ هذا القرار خرجت مظاهرات في الولايات المتحدة ضدّ السودان تصف العرب والمسلمين بأنهم جهاديون، وأن الجهاد مسؤول عمّا يجري في السودان». حين سمعتُ تصريح الناطق الرسمي باسم مجلس النواب الأمريكي بشأن دارفور، كنتُ أقرأ خبراً عن قطار إيطالي ينطلق من روما لبولونيا للتحذير من خطر الإسلام على الغرب، وأنّ الذي أطلقَ هذا القطار هو رئيس مجلس الشيوخ الإيطالي مارتشيللو بيرا، وأطلقَ عليه «قطار الغرب السريع»، بدعوى الحفاظ على الهويّة الغربيّة المسيحية التي يعتبرها مُهدّدة من طرف الإسلام. وحملَ القطار الذي انطلق من العاصمة روما قافلة ضمّت أكثر من 500 سياسي، فيما كتِبَ على بعض عربات القطار عبارة «أصول مسيحية» وسينطلق القطار إلى باريس ومدريد واسطنبول، وحذّر رئيس مجلس الشيوخ من إمكانية تغلغل الإسلام في ايطاليا واحتمال امتلاكه القوّة لمواجهة الثقافة الغربية والمسيحية. ويأتي هذا القطار المثال الصارخ على ذعرٍ أصبحَ واضحاً في الغرب من الإسلام والمسلمين، وحتى من المؤسسات الخيرية التي تُطعِم أطفال فلسطين، أو تُساعد أطفال العراق لتخفّف من نتائج وطأة الاحتلال على شعوب منطقتنا. فقد صدر في تقرير كارنجي للسلام العالمي في واشنطن تحذيراً من استمرار «الغموض» وسط الإسلاميين وأن هذا الغموض هو سبب المعضلة التي تواجه المنظمات الدولية والدول الغربية «التي اقتنعت بأن التحوّل الديمقراطي في الشرق الأوسط ضروري لأمن العالم، لكنّها كانت تتمنى لو أنّ الحركات السياسية المؤثّرة هناك علمانية، وتملك مؤهلات ليبرالية، ولها سوابق في العمل الديمقراطي».

وفي تحليلي لأصل ووجهة هذه الأخبار، بالإضافة إلى عشرات الأخبار التي تخدم الفكرة ذاتها، يمكن لنا القول إنّ هناك جهات غربية تتبنّى فكرة إثارة الخوف والشبهات حول الإسلام والمسلمين، فالقطار الذي لو انطلق به المسلمون ضدّ الغرب لكنّا سمعنا كلّ تهم العنصرية والإرهاب والعنف والتطرّف تنهالُ على المسلمين، يقع ضمن حملة الشبهات والتخويف هذه التي ترافقها دراسات تمنح نفسها صفة العلمية والموضوعيّة، ولكنّها غير قادرة على فهم واقع المسلمين وأصول وفروع الحركات الإسلامية وجوهر الثقافة الإسلامية وجوهر الدين الإسلامي الحنيف، الذي انتشر في العالم بقوّة الفكر والروح والعقيدة والقناعة والإيمان، وليس بقوّة السلاح والذي حافظ على تراث الشعوب وثقافاتها وتأقلم معها واغتنى بها وأغناها. والأمرُ الآخر هو هذه الانتقائية الغربية لدعم بعض القضايا أو الأشخاص بطريقة تؤيد المنظور السلبي عن الإسلام والمسلمين، وتُعزّز مفهوم الخوف الجمعي من الإسلام وإثارة القلق الشعبي من غزو محتمل يقوم به المسلمون للبلدان الغربية؟! وهنا يأتي تصريح الناطق الرسمي للكونغرس الأمريكي، ليكون جديراً بالاستخدام الفعليّ والدقيق ليس حول ما يجري في دارفور، لأنّ الحكومة السودانية والقمّة العربيّة بدأت في وضع المعالجة السليمة لهذا الموضوع، ولكنّ حول ما يجري في العراق وفلسطين اليوم وحول كلّ ما يُحاكُ ضدّ العرب والمسلمين في الغرب والشرق. أولا يشعر «العالم» بالخجل من أنّ الحكومة الفلسطينية المُنتخبة لا تستطيع أن تجتمع إلا عبر الشاشة نتيجة وجود الحواجز الإسرائيلية «ربما الديمقراطية» التي تبتلع كلّ يوم المزيد من الأرض؟ أولا يشعرُ «هذا العالم الذي تكلم عنه الناطق الأمريكي» بالخجل من أنهم يستيقظون كلّ يوم على أسماء وأرقام من الرجال والنساء والأطفال، يسقطون شهداء نتيجة الاحتلال الاستيطاني في فلسطين، وعشرات القتلى في العراق نتيجة احتلال دمّر حياة العراقيين ودقّ أسفيناً لئيماً في وحدتهم الوطنية؟ أولا يستحقّ كلّ هذا غضب العالم «المتحضر» جداً المتقلّب بأخلاقياته والانتقائي في إداناته؟! أولا تستحقّ القوانين التي صدرت في أوروبا وأمريكا، والتي تمنع الطلاب العرب من دراسة الاختصاصات الدقيقة غضب العالم، وأن تدفع العالم للخجل أن هذا يحدث في القرن الواحد والعشرين؟ ولكنّ المسلمين الذين هم ضحايا كلّ أحداث العنف والحروب والمخطّطات العنصرية، يكادون يفقدون القدرة على الغضب أو على إيصال أصواتهم وحقيقة فكرهم إلى العالم الغربي.

وهنا يأتي الوجه الآخر والخطير لهذه المسألة، التي نقلّبها من أوجه عدّة. ففي الوقت الذي يجهل العالم فيه حقيقة مستوى الحياة في الضفّة والقطاع والذي أصبح يُقارب مستوى شعباً يخضع لعقوبات جماعية وتمييز عنصري وحرب إبادة لا تُبقي ولا تذر، نجدُ أن العناوين الرئيسة التي نقرؤها حتى في إعلامنا العربي هي: «من يتولّى إدارة المعابر» ومن يمثّل الفلسطينيين في السياسة الخارجيّة»، بدلاً من إطلاق الصرخة الإنسانية المطلوبة عن الذلّ الذي تمثّله المعابر، وعن المجازر والفقر والقمع الذي يتعرض له يومياً الشعب الفلسطيني. وكل هذا الذل والدّمار ناجم من الاستهانة الغربية بسياسة أولئك الذين يحاولون استرضاءه على حساب الكرامة والهويّة والحقوق العربية، إنّ المتطرفين في الغرب، والذين هم الآن يسيطرون على مراكز الفكر والإعلام ومواقع صنع القرار السياسي لن يرضوا بأقلّ من سحقنا جميعاً، وأننا جميعاً بالنسبة لهم شئنا أم أبينا، أمة واحدة يعادونها دون تردد أو مجاملة.

وللمشككين والمترددين من هؤلاء وأولئك، أقولُ إنّ نظرة متأنية لواقع العرب، بعيداً عن الترويج الإعلامي الهائل لكل عمل مهما كان تافهاً للإرهابيين والمتخاذلين على حدٍ سواء، تُثبِتُُ بما لا يقبل الشكّ، أنّ ثقافة الإسلام هي ثقافة التعايش المشترك والمحبّة والتسامح، وكيف لا والله عزّ وجلّ هو القائل «إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، وإنّ اختلاف عادات المسلمين في بلدان شتّى واختلاف مقاربتهم لدينهم وحياتهم خير برهان على أنّ الإسلام الحنيف وسيدنا محمد (ص) قد نشر الرسالة بالرحمة والهدى. وأما العرب والذين يشكلّون جزءاً أساسياً من قلق الغرب على نفط الشرق الأوسط فقد احتضنت ثقافتهم كلّ الأعراق والأديان على مدى آلاف السنين، وها هو وزير خارجية السودان لام اكول ووزير خارجية العراق هوشيار زيباري يقفان في القمة العربية، دليلاً حيّاً على نضج الهويّة العربيّة واستيعابها الأعراق والأطياف المتنوّعة التي تعيش في البلد الواحد. ولو بحثنا عن أبطال ورموز الأمّة العربيّة في الشعر واللغة والفلسفة والتاريخ وحتى في الذود عن الأوطان، لوجدنا أنّ هؤلاء ينتمون إلى كافة الأطياف العرقية والدينية والتي كان ولا يزال تعايشها فخراً لهذه الأمّة وسبباً أساسياً في تألقها الحضاري، وإبداعاتها الثرّة التي أهدتها للعالم.

لا شكّ أنّ هناك الكثير مما يجري في منطقتنا، والذي يجب أن يدفع «العالم» للخجل لأنه يجري في القرن الواحد والعشرين. ولكنّ اختيار دارفور وإهمال فلسطين والعراق من جهة، وافتعال المواقف التي تثير النزاع والحساسية بين المسلمين والمسيحيين من جهة أخرى، والشكّ والريبة بينهم هو ما يدعو إلى الغضب، وهو الذي ينذر بأخطر النتائج ما لم يهبّ العقلاء في الشرق والغرب لإنهاء الاحتلال البغيض أولاً عن أرضنا، واستعادة الكرامة الإنسانية الحرّة لشعوبنا التي وهبها الله إياها. ولا يمكن أن يتمّ هذا إلا بأن يعود المسلمون ليلعبوا الدور التنويري مع زملائهم ونظرائهم في الغرب، لإعادة الاعتبار لثقافة السلام والتي تتناقض حكماً مع الاحتلال والاستيطان والقتل والدمار والتعصب الديني. لقد تحوّل العالم إلى مسرح عنف دموي، وتحوّل بعض العاملين في السياسة والإعلام إلى ممثلين يثيرون الغرائز العنصرية، من خلال استغلال الحدث استغلالاً بعيداً عن الصدق والشعور بالمسؤولية والإحساس بالعدالة. هذا هو الذي يستحقّ الخجل، وهذا هو الذي يجب أن يدفع بالعالم أن يغضب لكي يُعيد للعمل السياسي والإعلامي صفاتهما الأخلاقية. إنني كأمرأة عربية ومسلمة أشعرُ بالغضب الشديد كلّ يوم، ولكن لأسبابٍ مختلفة عن تلك التي أوردها الناطق الرسمي باسم الكونغرس الأمريكي، وأريد من العالم أن يغضب معي غضباً ضدّ الظلم والعنصرية والاستهانة بكرامات وحقوق الشعوب وبعقولها وإمكاناتها أيضاً.