لبنان: حق الخروج من قيد السطوة

TT

بالطبع ليس مشهداً اعتيادياً في القمة العربية، التي انعقدت مؤخراً في الخرطوم، ان تندلع تلك المواجهة، بين رئيسي الجمهورية والحكومة اميل لحود وفؤاد السنيورة، بل ان الأمر برمته يبدو مشهداً خارجا عن السياق السياسي العربي، لا سيما الرسمي، وفي منتدى الرؤساء الذي طالما راوح بين حدي التنديد والتمجيد لا اكثر. لبنانياً، يبدو المشهد اعتيادياً بل طبيعياً جداً وواقعياً من دون ان يصل الى حدود المرغوب او المحبب، رغم الاعتراضات التي صورت حوله من ضفتي الصراع السياسي في البلاد، وهو مشهد استكمل في لبنان من قبل رئيس الجمهورية، الذي اصر على تعميم جو اعلامي ـ سياسي في الصحف اللبنانية، وفي ارجاء السياسة الداخلية، بأنه الحق برئيس الحكومة هزيمة ساحقة في منتدى الرؤساء.

مشهد الخرطوم ليس رفاهية سياسية لبلد يستسيغ الرفاهية في كل شيء، بل هو تعبير عن الصراع السياسي في البلاد بين قوى سياسية تسعى جاهدة وبتضحيات كبرى، من اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وصولاً الى الشهيد جبران تويني، مروراً بكل الشهداء، لتثبيت ما تحقق من انجاز استعادة القرار الوطني المستقل وإطلاق مسار استعادة النظام الديمقراطي، وبين قوى اخرى، ومنها رئيس الجمهورية، رأت في خروج الجيش والمخابرات السورية من لبنان خسارة كبيرة لها، وتحاول اعادة ضخ وتزخيم العامل السوري في القضايا الداخلية، بما قد يؤدي اليه من اعادة انتاج لمتوازن سياسي اختل لمصلحة قوى الرابع عشر من آذار.

الصراع السياسي في البلاد لا يدور طبعاً حول مقاومة الاحتلال، كما حاول رئيس الجمهورية اميل لحود تصوير الامر، فأثار حماسة الكثيرين ممن لم يطلقوا يوماً رصاصة على اسرائيل. والصراع هو ليس على عروبة لبنان، كما يحلو للبعض ان يسوق في سياق ثقافة تخوين تضع كل صوت ديمقراطي او اعتراض في خانة التآمر على الوطن. والصراع ليس على تحييد لبنان عن قضايا العرب وربطه بعجلة السياسة الغربية، اميركية كانت ام فرنسية، او تحويله الى موطئ قدم للاستعمار الجديد، كما يبشر النظام في سورية في حمأة سخطه وعدوانه على قسم كبير من اللبنانيين.

الصراع ببساطة هو ان هناك شعباً لبنانياً، رغم تجاربه السوداء ورغم حربه الاهلية الدامية، يعتبر ان من حقه ان يحكم نفسه بنفسه وان يخرج من قيد السطوة التي طالما مارسها النظام السوري بحقه، من دون انكار مسؤولية لبنانية في ما آلت اليه امور العلاقات اللبنانية ـ السورية، لكنها مسؤولية جزئية، بالمقارنة بمسؤولية من مارس هذه الهيمنة طوال ثلاثين عاماً، ومن دون انكار المساهمة السورية في مساعدة الشعب اللبناني في بعض النواحي، لاسيما تضحيات الجندي السوري في مواقع ضد الاحتلال الاسرائيلي، لكنها تضحيات طمست نتيجة السياسة العامة التي غلّبت منطق الامساك بالبلد ومؤسساته وسلب خيراته على منطق الشراكة الاستراتيجية بين البلدين. وكانت سرقات بنك المدينة اكثر فعلاً في مخيلة اللبنانيين من كل النواحي الايجابية، وكانت مآثر الاغتيالات من المعلم كمال جنبلاط، الذي كانت شهادته فاتحة المظالم، وصولاً الى رفيق الحريري وغيرهما من الشهداء.

الخلاف ليس حول مقاومة الاحتلال ولا على شراكة لبنان في الصراع العربي ـ الاسرائيلي، وبين القوى الاستقلالية، احزاب كانت اول من احتضن القضية الفلسطينية، وأطلق معها اولى الرصاصات في مواجهة الاحتلال الاسرائيلي، وبينها ايضاً من حمل حق لبنان في مقاومة الاحتلال الى كل مواقع وعواصم القرار الدولي، وبينها ايضاً من تراجع عن تجاربه واخطائه في الرهان على العدو الاسرائيلي، وبات جزءاً من موقف لبناني عام يعتبر ان لبنان شريك كامل الشراكة في الصراع مع الاحتلال، لكنه شريك باقتناعه وليس اداة او ساحة او ورقة مقايضة، ويعتبر ايضاً ان لبنان لن يوقع اتفاق تسوية مع الاحتلال الاسرائيلي، حتى لو وقعت كل الدول العربية، ليس فقط بحكم عدوانية هذا الاحتلال او بحكم خيبة الدول التي راهنت على التسوية معه، بل بحكم التركيب الداخلي اللبناني الذي يجد ضمانته الكبرى في عدم مقاربة حجر التسوية مع الاحتلال الاسرائيلي.

والخلاف ليس على سلاح حزب الله، وبين القوى الاستقلالية من لا يزال يصر على انه وفق معايير الصراع مع الاحتلال، فان مدى نظره وطموحاته لا تتوقف قبل حدود القدس، لكن الخلاف على معايير الاستغلال والاستخدام من قبل النظام السوري لسلاح حزب الله لتحسين الشروط على الساحة الدولية وفتح باب المقايضة مجدداً لإعادة السيطرة على لبنان. وفق هذه المعايير فالأسئلة كثيرة والخطوات قد تكون معدومة، خاصة ان اتت تلبية لمطالب من نبت العشب على جبهاته وسكن الطير على جانبي صدوره مع الاحتلال.

ربما يكون ذلك الزهو اللبناني غير مبرر، وربما يكون من مساوئ اللبنانيين اعتداد بالنفس مبالغ فيه، لكن هل تسمح بعض الواقعية للعرب ان يسجلوا ان هذا الشعب قد تجاوز، بمساعدة كبيرة من الدول العربية، انجازاً في المصالحة وطي ملف الحرب، وحقق انجازاً في تحرير القسم الاكبر من ارضه وأسراه من الاحتلال الاسرائيلي بفضل تضحيات المقاومة بكل مراحلها وفصولها، وبفضل صمود اللبنانيين، وهذا الشعب اطلق مسار استعادة قراره المستقل في عام 2005 وبات بإمكانه ان يشكل نموذجاً في التكامل والمصالحة بين العروبة والديمقراطية، او ان يكون محاولة لبنانية طموحة للاجابة على السؤال العربي المزمن، وعلى تلك الاستحالة التي تخيّرنا بين ان نكون اسرى لأنظمة القمع او ان نكون سبايا لاحتلال ما.

* نائب برلماني لبناني