صنع الله إبراهيم: حاولوا أن يشتروني فكنت أذكى منهم
الروائي المصري لـ« الشرق الاوسط»: أصررت على أن أرفض الجائزة أمام الناس حتى أكون صادقاً مع نفسي
الخميـس 11 رمضـان 1424 هـ 6 نوفمبر 2003 العدد 9109
جريدة الشرق الاوسط
الصفحة: فضاءات
القاهرة: حمدي عابدين
في هذا الحوار، تحدث المصري صنع الله ابراهيم، الذي أحدث رفضه جائزة الرواية العربية صدى كبيراً تراوح بين التأييد والهجوم، عن علاقته بالمؤسسات الثقافية المصرية، وعزوفه عن الجماعات والتجمعات الثقافية «ليس موقفا منها»، بل لأنه يميل الى الوحدة، كما أنه لم يعد لديه وقت «ليضيعه في الجلسات و«القعدات» في وسط البلد»، بالرغم من إنه من الاعضاء المؤسسين لاتحاد الكتاب، وشارك في أول اجتماع تأسيسي له عام 1975. غير ان وزارة الثقافة سعت لفرض السيطرة عليه «فأرسلت الكاتب عبد الرحمن الشرقاوي من أجل هذه المهمة، لكننا افسدنا هذه المؤامرة واكتشفت يومها كيف تستخدم السلطة كتابا أصحاب سمعة طيبة للسيطرة على المؤسسات الثقافية، وهذا هو بداية سلم السقوط لهم».

حول هذه القضايا، وتجربته الروائية، كان هذا الحوار مع صنع الله ابراهيم

* ما هو رد الفعل الذي كنت تتوقعه من الناس فور رفضك للجائزة؟

ـ لم اتوقع ان يحصل ما رأيته، كان موقف واستقبال الناس لما فعلت مذهلاً.

* لكن كيف اتخذت قرار الرفض؟

ـ فكرت كثيرا فيما نقوله في حواراتنا مع بعضنا حول ما يجب أن يكون، وضرورة أن يتخذ المثقفون مواقف لمواجهة ذلك، وعندما أعلموني أن الجائزة من نصيبي، فكرت كثيرا كيف أرفض الجائزة، وقلت لو رفضتها من دون أن يحدث ذلك أمام الناس سيقولون ان صنع الله نصاب ويريد أن يجعل من نفسه بطلا، أما اذا رفضتها في صمت، فسوف يكتمون الخبر ولن يعرف أحد شيئا، ولم يكن مطروحا أمامي أن أقبلها وأتبرع بها، لان هذا لن يحقق النتيجة التي أريدها، لذا قررت رفض الجائزة واعلان هذا أمام الناس.

* وماذا بعد؟

ـ مرت ثلاثة أيام عصيبة عليّ، وقالت لي زوجتي لا بد أن تكون قادرا على تحمل تبعات موقفك، ورحت أكتب حيثيات رفضي للجائزة خوفا من أن ارتبك أمام الناس ويحدث عكس ما أصبو إليه، واتفقت مع زوجتي على ان تستقبلني عندما أنزل من المسرح ونخرج معاً.

* هل كنت تتوقع رد فعل الناس؟

ـ لم أتوقعه، لكن استمرار ردود الافعال حتى الآن هو الذي جعلني اعتقد ان حساباتي كانت صحيحة ورصدي للتغيرات التي حدثت، ولم تعمل الحكومة حسابها لدى الناس منذ انفجار الانتفاضة الثانية، كان أيضا صائبا. لقد حدثت تحولات في مزاج الشعب المصري، هناك شيء حدث في نفوس الناس وكان لا بد من التعبير عنه، ومن هنا كان رفضي. فليس معقولا أن نتحدث ليل نهار من دون أن يكون كلامنا له ظل من الحقيقة.

* لكن ما هو السر وراء اختيارك للجائزة؟

ـ لقد تخيلوا انهم من السهل أن يكسبوني، لقد تخيلوا هذا.

* هل كنت تتوقع كل هذا التكريم بعد رفضك الجائزة.. هل استغربته؟

ـ ليس غريبا لكنه مدهشا وجميلا وان تكرمك المؤسسات مثل اتحاد الكتاب ونقابة الصحافيين وغيرها أمر طبيعي، لكن ان يتصل بي مجموعة من العاملين في مصر للطيران يطلبون زيارتي فهو أمر جميل ومفرح، وان يتحدث يوم الجمعة الماضي أحد أئمة المساجد في خطبة الجمعة عما فعلت ويقول ان ما قمت به كان يجب أن يقوم به الشيوخ قبل غيرهم فهذا ما جعلني أشعر بالفخر لما فعلت.

* في رواية «شرف» وجه احد ابطالها دكتور رمزي سليمان رسالة من السجن اشبه برسالتك التي وجهتها للناس عندما رفضت الجائزة. هل استحضرت موقفه وانت تكتب رسالة الرفض؟

ـ انت لا تستطيع ان تحدد مساحة ارتباط الكاتب بأبطاله وشخوص رواياته، وهناك هواجس مشتركة بيني وبين شخصياتي وهناك تلاؤم بيني وبين دكتور رمزي في رواية «شرف» وبطل اللجنة ورشدي في «وردة» وشكري في روايتي الأخيرة «الامريكانلي».

* كيف اذن كان السجن عنصر بناء في أعمالك الروائية وكيف استطعت ان تجعله كذلك؟

ـ أنا كنت سجينا سياسيا وهناك فرق بين السجين السياسي وغيره من السجناء، ونحن لدينا تراث في التعامل مع السجن ولم ندعه ينتصر علينا، لذا كنا نقرأ ونكتب وندرس ونتفهم ونستمع الى زملائنا من الكتاب الكبار الذين سجنوا معنا. اضف الى ذلك شيئا آخر مهما وهو شخصية السجين الذي قد يكون مبدعا مثلي، فانه في هذه الحالة يحول هذا السجن والقيد الى عنصر مهم في ابداعه، وأنا مدين لفترة السجن بالتعرف على عوالم عديدة وثرية وشخصيات مهمة ووفية، مررت بتجارب حادة جدا ساعدتني كثيرا في الكتابة الابداعية. نحن موجودون في سجن كبير ومهم ان نأخذ من السجن الصغير وسائل مقاومة حقيقية وفاعلة للتغلب على السجن الكبير ورفضنا للسجن الصغير لا بد أن يكون امتدادا له رفضنا للسجن الكبير.

* في كتابتك الروائية بخاصة «اللجنة» و«شرف» تتجلى مفارقة عجيبة فالبطل يحاول ألا يقع فريسة للآخر الأجنبي فيقع في جب الداخل ويتعرض لقمع السلطة. هل تعتقد أنها دائرة لايمكن الفكاك منها؟

ـ القهر كان هو الجو العام أيام كتابة هذه الرواية وقد قمت بتحويل إحدى رواياتي الى مسرحية منذ حوالي عشر سنوات بنفس الاسم ونفس النهاية. هذه الرواية هي «اللجنة» وكان مقررا ان يقوم باخراجها مراد منير لكنه فشل في اتمام المشروع. وقد قام في العام الماضي بمحاولة أخرى واكتشفنا ان الموقف قد تغير، ولا يمكن ان تكون نهاية المسرحية مثل النهاية في الرواية. لا يمكن ان يكون موقف البطل في المسرحية هو نفس موقفه بعد الانتفاضة وبعد ارتفاع حدة الصدام بين اسرائيل واميركا من جانب وبلدان الوطن العربي من جانب آخر، وهناك عمليات استشهادية وأعتقد ان الوضع هكذا لا يجعل نهاية البطل في المسرحية مقبولة، بعد ان قدم الناس في الواقع وعلى مستوى الفعل النضالي نموذجا مختلفا. وقد رأيت ان هناك ضرورة لتغيير نهاية المسرحية طبقا لما حدث في الواقع العربي.

* في كتابتك الروائة «نجمة اغسطس» مثلا تنطوي رسالتك الابداعية على التنبيه الدائم لما يمكن أن يصل اليه مصير الانسان العربي وانسان العالم الثالث؟

ـ هذه هي وظيفة الابداع، وأنا أحاول كشف تحولات المجتمع وما تقوم به آلة الدعاية الحكومية التي تعمل بشكل منظم على افساد «مخ» الناس، مستغلين ما كان يطرأ على المجتمعات العربية من الانتعاش الاقتصادي في جعل الانسان يلهث وراء متطلبات جديدة لا يستطيع الاستغناء عنها. كان هذا حاصلا قبل عام 1990، ولكن منذ جريمة الغزو العراقي للكويت وما تبعها من جريمة ضرب العراق ثم احتلاله، كل هذا فضلا عن الاعتداءات الاسرائيلية المتكررة على الشعب الفلسطيني في الفترة الأخيرة وسياسة الإبادة الشاملة التي يتبعها شارون في التعامل مع القضية الفلسطينية وأبناء الشعب الفلسطيني وانتفاضتهم في ظل سكوت وتجاهل عربي، هذا الموقف أحدث تغييرا خطيرا في وعي ونظر الفرد العادي وكان لا بد ان يجعلني أغير نهاية المسرحية لان بطلها، لو ان الوضع مثلما يحدث حاليا، كان قد غير من سلوكه، وما قام بشنق نفسه، وقاوم ما يحدث له من قمع وقهر.

* مصادرة روايتك «تلك الرائحة» ومنع صدورها كاملة إلا بعد عشرين عاما هل جعلاك حذرا وانت تكتب الروايات الأخرى حتى لا تنال مصيرها؟

ـ هذا طبيعي جدا، ولكن الفكرة كلها كيف أقاوم هذا الخوف الداخلي من المصادرة وأتعامل معه، وأقول اقصى ما يمكن قوله وأغامر أحيانا من دون أن أتعرض للمصادرة. ولحسن حظي فإن مغامراتي كلها نجحت رغم تعرضي في رواياتي لبعض التابوهات المستقرة التي لا يمكن ان يمارس الاديب عمله بصدق ونجاح من دون ان يتعرض لهذه التابوهات بشكل أو بآخر. وقد ساعدني في الخروج وتجاوز المصادرة رغم تعرضي لهذه التابوهات انني لم أتعامل معها بشكل مبتذل ولم أنشر قط من خلال مؤسسات النشر في الدولة. فكل رواياتي تنشر في دار المستقبل العربي. وهناك أيضا ظروف أخرى خدمتني خاصة بوجود مهام لدى الحكومة تأتي في الأولوية، والنظام في هذه الحالة يتجنب الدخول في معارك صغيرة مع كاتب، وقد استفدت من هذا وخرجت رواياتي من دون أن تتعرض للمصادرة.

* ولكنك نشرت رواية «شرف» في دار الهلال الحكومية؟

ـ من حظي اني تعاملت مع مصطفى نبيل المسؤول عن روايات الهلال، فقد قبل نشر الرواية من دون اعتراض على كلمة واحدة وقد مرت الرواية وطبعت مرتين هناك من دون مشاكل.

* وماذا عن استخدامك للوثيقة في أعمالك الروائية؟

ـ أنا اكتب عن شخصيات لها سلوك معين داخل أحداث الرواية ولا بد من ان اضعهم داخل اطار الواقع الذي يعيشون فيه ويدفعهم لذلك، كما انني اريد ان اربط أحداث الرواية بالفترة التي وقعت فيها.

وهناك شيء آخر وهو لعبة طريفة، تتلخص في انني من هواة أرشفة مواد الصحف والمواد المختلفة، وذلك تمهيدا لتحويلها الى مادة عضوية في العمل الروائي، وهو قادر على استيعاب اشياء كثيرة جدا. لقد كانت بداية تعاملي مع التوثيق في روايتي «نجمة اغسطس» عندما قررت كتابة رواية عن السد العالي، وقد فوجئت بوجود كمية كبيرة من الكتابات الانفعالية ذات الطابع الغنائي والانشائي الى جانب وجهات نظر مختلفة بشأن المشروع، وقد توصلت بعد تفكير الى ان هناك ضرورة لعمل بانوراما كاملة لأقدم للقارئ ما يحدث فعلا من سلوكيات وأفعال ووجهات نظر، وقد كتبت كل هذا وضمنت الرواية ما سمعت وما رأيت. والاخبار التي كنت اسمعها واقرأها، بالاضافة الى كل عناصر الموضوع بما في ذلك أخبار الصحف والراديو.

* وماذا كنت تقصد من وراء ذلك؟

ـ أردت الوصول الى اقصى درجة من ادراك الواقع وأعبر عنه وهي مسألة استوعبها الشكل الذي رأيته يتفق مع مزاجي الخاص وقد جعلته يستوعب كل شيء لان الرواية فن قادر على ذلك.

* الراوي في روايتك الاخيرة «الامريكانلي» يخرج من المشهد الروائي ويلجأ الى تكنيك السينما في وصف المشاهد التي تحدث، ثم يفاجئ القارئ بقطع يعني انه غير راض وغير قادر على التفسير أو احتواء ما يحدث أمامه وتبريره؟

ـ ليس مطلوبا مني كروائي ان اقدم حلولا للمشاهد التي اكتبها في رواياتي، انها مسألة غير سهلة وأنا أعرض لحالة أو موقف وأثير الاسئلة، وليس في استطاعتي ان أعالج المواقف، والراوي هنا يبتعد عن المشهد ليترك القارئ أمام الحدث كله وهو الحكم في النهاية والراوي هنا ليس سلبيا بل ربما يكون ايجابيا لأنه يثير السؤال باختفائه وقد يكون هذا موقفا منه في مواجهة ما يحدث.

* بطل «الامريكانلي» وهو يتجول في جامعة كاليفورنيا يستحضر مشاهده وذكرياته في جامعة القاهرة ويقارن بين الاثنين وهو يشعر بالأسى. ماذا كنت تريد أن تقول؟

ـ أردت ان اقول ان اميركا امبراطورية قمع واستغلال وعدوان وتغلف كل هذا بشعارات براقة وجوفاء، لكن التاريخ يثبت انه لم يعش قاهر أو ظالم الى الأبد. وبالتأكيد هناك حركة شعبية عالمية مذهلة ضد التوجهات الغربية والعولمة وهذا يتجلى في أميركا الجنوبية التي تغلي وافريقيا وآسيا، ولذا أنا أرى أن المستقبل يمكن أن يكون مشرقا.

* قلت في إحدى رواياتك ان اميركا تعطي الحكومات منحاً من اجل بناء السجون. أليست هناك مبالغة في ذلك؟

ـ اميركا تدعم القمع وتحارب الديمقراطية حتى تضمن استقرار الاوضاع وبقاءها على ما هي عليه في العالم الثالث.. وهم في الوقت نفسه يقدمون في التلفزيونات صورا جميلة لحياة الناس في الولايات المتحدة، يظهرونهم كأنهم يعيشون في فيلات وحدائق. والموضوع غير هنا والحقيقة ان لوس انجليس مثلا وهي من أغنى المدن الاميركية بها الكثير من الفقر، وهناك أسر تعيش فيها تحت حد الكفاف.

* ترجم الكثير من رواياتك. إلى أي شيء تعزو السبب؟

ـ الفكرة دائما بالنسبة للترجمة ان أي مكان في العالم وأي مؤسسة تعمل في هذا المجال تقوم بترجمة الاعمال التي تعطيها صورة حقيقية عن الواقع في بلاد ما، صورة مختلفة عن تلك التي تقدمها وسائل الاعلام. ونحن مثلا نترجم الكتب والروايات التي تكشف زيف الانظمة الغربية، وهم في الغرب ما دام الوضع هكذا يترجمون ويقدمون للقارئ نفس الشيء. وهذا يجعلني أقول انه ليس هناك استغلال للروائيين، بطرح وجهات نظرهم في الغرب، ومع ذلك هناك كتاب يحاولون الوصول الى نجاحات سريعة عن طريق كتابة موضوعات تحظى بطلب واسع في أوروبا وهي مشاكل تخضع للروائي نفسه. ومع ذلك أنا اعتقد ان مسؤولية الروائي ليست الترجمة. إنها ليست الهدف من الكتابة. الترجمة مسألة جانبية ولا يمكن ان يكتب الروائي الحقيقي وهو يضع في قرارة نفسه عينه على الترجمة. سيكون الأمر سيئا وغير حقيقي ولا صدق فيه.

* تعرضت لمشكلة عند ترجمة بعض رواياتك مع المترجم ستيفان فايتنر؟

ـ انه رئيس تحرير مجلة «فكر وفن» وقد عهدت إليه دار نشر ألمانية كبرى بأن يعد مجموعة من الأعمال الروائية وترجمتها والتي تدور حول الحرب الاهلية في لبنان. وقد اختار فايتنر روايتي «بيروت بيروت». لكنه ارتكب خطأ فادحا عندما اختار فقرات من الرواية نزعها من سياقها وقدمها كأنها هي الرواية بعد ان دمجها جميعا في نص واح. مستبعدا أي حديث عن الدور الاسرائيلي في الحرب والأهداف الصهيونية من ورائها. وقد قمت برفع دعوى قضائية ضده في ألمانيا وضد الدار المعروفة باسم «سوركامب».