عبد الله الغذامي يفتح النار على الجميع: الحداثيون السعوديون هم نتاج المؤسسات التراثية
كتاب «حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية» يؤكد انه ليس لمشروع الحداثة أن ينتهي ومن المحال افتراض ذلك
الخميـس 27 ذو الحجـة 1424 هـ 19 فبراير 2004 العدد 9214
جريدة الشرق الاوسط
الصفحة: فضاءات
الرياض: سعد المحارب
« ..إن الذي انتهى فعلياً وعملياً هو الصراع العلني المركز ضد الحداثة كمصطلح وكميدان وحيد للصراع والنقاش.. ومن هنا فلسنا أمام نهاية للحداثة بقدر ما نحن على مشارف عصر ما بعد الحداثة» حيث الفسيفساء الاجتماعية، وحيث التعدد والتجاور وحيث الكشف والإفصاح.. إلى هذه النتيجة ينتهي عبد الله الغذّامي في كتابه الجديد «حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية»، وهي نتيجة تدل على أن المشروع الحداثي ـ وما بعد الحداثي ـ مستمر بغض النظر عن إخفاق تجربة عربية أو سعودية.

وقبل الشروع في عرض الكتاب، فمن الجدير التنبيه إلى ثلاث ملاحظات رئيسية، أولها أن الكتاب يأتي ضمن مشروع النقد الثقافي الذي أطلقه الغذامي بكتاب يحمل نفس الاسم، وان قراءته خارج هذا الفهم مضرة بالكتاب والمشروع ـ وربما بالقارئ ـ وثانيها أن الكتاب ليس بحثاً منهجياً وإنما حكاية لما جرى من تحولات كبيرة ذات طابع حداثي للمجتمع السعودي وفق رؤية المؤلف، حيث الحداثة موقف من الحياة وليس مجرد موجة أدبية، وثالثها ان الأسماء الواردة في الكتاب، والتي أثارت عواصف صحافية، جاءت دائماً بوصفها شواهد للتأكيد على أفكار طرحها الغذامي، لذا فإن التوقف عندها يسيء ـ مرة أخرى ـ للمؤلف وللكتاب والقارئ.

ويتكون الكتاب الصادر عن المركز الثقافي العربي من 304 صفحات من القطع العادي، وينقسم إلى ستة عشر فصلاً بالإضافة إلى ملحق يشمل مجموعة من الرسائل الكيدية التي أرسلت إلى الرمز الحداثي السعودي خلال فترة الصراع حول الحداثة.

* لماذا الحكاية؟

* الفصل الأول «الحوار الضائع» يشير المؤلف في بدايته إلى حوار كان يجب أن يعقد بينه وبين أحمد الشيباني ضمن إحدى ندوات مهرجان الجنادرية لعام 1989، إلا أن الحوار لم يتم إذ تراجع الشيباني عن الفكرة، ثم اقترح علي أستاذ الاجتماع أبو بكر باقادر تقديم قراءة للخطاب الدائر حول الحداثة إلا انه لم يفعل، كما يشير إلى أن مرزوق بن تنباك تقدم لجامعة الملك سعود بفكرة مشروع بحثي حول الحداثة في المملكة إلا انه قرر لاحقاً التخلي عن ذلك المشروع رغم موافقة ودعم الجامعة، ثم يؤكد الغذامي انه كان يأمل أن يتولى باحث مستقل هذا الموضوع إلا أن تقاعس الجميع دفعه إلى تأليف هذا الكتاب، حيث يقول«أما من جهتي فإنني سأفتح موضوع الحداثة بوصفها حكاية اجتماعية، مع كامل إدراكي للمخاطر اللاموضوعية، مذ كنت طرفاً من أطراف الحكاية».

في الفصل الثاني «تسكين المتحرك ـ النسق الساكن» تأكيد على أن الكتاب يمثل حلقة من سلسلة مشروع النقد الثقافي، إذ يتعاطى المؤلف في هذا الفصل مع مفهوم أصالة النسق الساكن الذي ينزع للاحتفاظ بالوضع القائم وقمع أي حركة تجديدية تسعى إلى معارضة النسق من خلال التحريك، والغذّامي يكرر في هذا الفصل التزامه بتعريفه للحداثة بأنها التجديد الواعي إلا أن الجديد هنا هو استشهاده على هذا التعريف بنشأة الدولة السعودية الثالثة، ومواقف مؤسسها الملك عبد العزيز، إذ يعتبر المؤلف أن توطين البدو وتأسيس نظام إداري يقوم على الكتابة بدل الشفاهة، وإنشاء العلاقات مع الدول الأجنبية، كل ذلك يعتبر تجديداً واعياً من جانب مؤسس الدولة السعودية الحديثة.

في الفصل الثالث «حداثة النصف خطوة» ينتقل المؤلف من التاريخي والاجتماعي إلى الثقافي، حيث يبدأ بعرض ما سماه الموجة الأولى للحداثة السعودية، مستعرضاً سيرة فكرية لحمزة شحاتة والعواد، منتهياً إلى أن هذه الموجة لم تنجح في إحداث تأثير ثقافي فاعل، إذ يقول: «ولم تكن أسماء شحاتة والعواد كافية لقيام حركة ثقافية تغييرية وذلك لانكسار شحاتة وانسحابه ثم لتواضع تجربة العواد»، وليصل إلى أن المتثقفين السعوديين وحتى السبعينات الميلادية ظلوا ينهلون فكرهم من المصادر العربية، ليكونوا جيل التقليد والمحاكاة لا جيل الإبداع الثقافي.

* الجامعة في مواجهة الحداثة

* «قلعة التقاليد: الجامعة أو الأميرة النائمة» هذا عنوان الفصل الرابع الذي يقرر الغذّامي فيه أن قطيعة ذهنية قامت بين المجتمع السعودي وجامعاته، قبل أن يصل إلى عبارته التالية «أما الجامعة كمؤسسة فأبادر إلى القول إنها لم تسجل في تاريخها كله عندنا لا عربياً ولا في الغرب، ما إذا كانت رائدة أو قائدة في التغيير، بل إنها اقرب إلى رفض التغيير والوقوف ضده»، ثم يفرق المؤلف بين الأكاديمية المؤسسة، والأكاديميين الأفراد، مؤكداً على دور الفرد في التحديث ودور المؤسسة في التقليد، وانتهاء الأمر إلى مواجهة الفرد الأكاديمي لمؤسسته الأكاديمية بسبب ممارسته تجديداً واعياً، ويقول في هذا السياق «كل من سموا بالحداثيين ـ في السعودية ـ هم من خريجي المؤسسات التعليمية التقليدية، من دار التوحيد والمعاهد العلمية وجامعة الإمام وأم القرى.. لدي إحصائية تدل على أن معظم حداثيينا هم من مؤسسات تراثية في الأصل».

وكما هو عنوان هذا الفصل «الحداثة ـ الموجة الثانية»، فإن الحديث هنا عن الموجة الحداثية الثانية والمنقسمة إلى جيلين; أولهما تمثله مجموعة من المبدعين المشتغلين بالصحافة مثل سعد الحميدين واحمد الصالح وعلي الدميني الذي ظهر مع نهاية الستينات وبداية السبعينات من القرن الميلادي الماضي، وثانيهما الذي ظهر في الثمانينات ووصفه المؤلف بجيل الكعكة ويقول عنه «هو الجيل الذي توهجت شعلته في الثمانينات وقدم للحداثة الشعرية صيتاً كبيراً وسحب البساط ممن سبقوه، وغطى على من لحقوا به، واستأثر باهتمام النقد، ثم اختفى واختفى النقد المصاحب له، وكان بمثابة النكسة الثقافية، وتضررت الحركة تبعاً لذلك»، وهذه الموجة ـ وسابقتها ـ تنحصر في الإطار الأدبي وتحديداً في الشعر والنقد، أما الحداثة بوصفها موقفاً من الحياة، فكان لها رموزها بين الجيلين حيث يشير المؤلف هنا إلى عبد الله عبد الجبار وعبد الكريم الجيهمان وغازي القصيبي ومحمد العلي.

وقبل أن يختم هذا الفصل يشير الغذّامي إلى ثلاثة أمثلة تاريخية ذات أهمية موضوعية صاحبت الحركة الحداثية إلا أنها لم تنجح في إحداث التغيير أو خلخلة النسق، وهي قصيدة النثر والقصة القصيرة والنقد الأكاديمي.

«المكارثية الجديدة» عنوان الفصل السادس المأخوذ عن عنوان لمقالة كتبها عبد الكريم العودة للرد على كتاب «جناية الشعر الحر» لأحمد فرح عقيلان، ويروي المؤلف مجموعة من المواقف التي اتخذها عقيلان منه شخصياً لأسباب ترتبط بالتزام عقيلان بالنسق المحافظ ورفضه للحداثة التي تهدد النسق.

* المجتمع والتغيرات الحداثية

* الفصل السابع «ظهور المثقف وهجرة الريفي» يعود فيه المؤلف للابتعاد عن الأدبي والنقدي إلى الاجتماعي، حيث يعيد القارئ إلى الخمسينات الميلادية، حيث قرار نقل الوزارات في السعودية إلى الرياض، وقد كانت موجودة في مكة وجدة والطائف، ما قاد إلى هجرة جماعية للموظفين وعائلاتهم، ويروي أن الرياض استقبلت القادمين إليها بنفيهم إلى الحي الجديد «الملزّ» الذي أصبح «منطقة ثقافية واجتماعية حية تختمر فيها تغييرات ذهنية عميقة جداً.. في حين أن الرياض التقليدية ظلت تنظر للملزّ على انه حي له شأنه الخاص ولا شأن للمدينة المحافظة به»، ويخبر الغذّامي قارئه أن هذا الوضع سيتكرر في مختلف المدن السعودية، كما سينتقل الريفي من قريته النائية وبلدته البعيدة إلى المدن الكبيرة ليشارك ضمن المجتمع الجديد، لتتكرر خميرة الملزّ الاجتماعية والثقافية، الأمر الذي سيقود إلى إحداث تغيير في منظومة القيم المحلية، كما ساهم في ذلك «ظهور المثقفة» ـ عنوان الفصل الثامن ـ وفيه يشير إلى ولادة تاء التأنيث في الثقافة السعودية حيث العمود الصحافي الأول للسعودية خيرية السـقّاف في العدد الأول لصحـيفة «الرياض» عام 1965.

وفي الفصل التاسع «عقلية بين عقليتين» يشير المؤلف إلى عادة تسمية الابن باسم الجد الشائعة في السعودية، ودلالتها على حصر الحاضر والمستقبل في إعادة إنتاج الماضي، كما يلفت إلى أن ثورة على هذا النسق حدثت في الستينات إذ اخذ الآباء بالتفنن في تسمية أبنائهم وبناتهم، وكان من بين الأسماء رموز سياسية وثقافية وفنية، إلا أن الأبناء صاروا يغيرون أسماءهم المستحدثة إلى أسماء تقليدية ويقول هنا:«لقد انشغلت المحاكم والدوائر والمدارس، وامتلأت الصحف بإعلانات التغيير، في ثورة نسقية مضادة تعيد الأمور إلى مجاريها وترسخ النسق الاجتماعي، وتعيد ترتيب الأمور على الغرار المحافظ والمعتاد».

الفصل العاشر وكما يتضح من عنوانه «الطفرة الكائن المجازي أو الحداثة المشوهة» ينقل فيه الغذّامي كيف تلقى أخبار الطفرة التي عرفتها السعودية بصورة مباغتة عام 1975 أثناء دراسته في بريطانيا، قبل أن يصطدم بها عند وصوله إلى جدة قادماً من لندن ليكتشف أنه «لم يكن التغيير في الملابس وأرقام المكاسب والسفر صيفاً إلى لندن فحسب، ولكنه أيضاً في الأخلاق، لقد تغيرت أخلاقيات الناس وسلوكاتهم.. وصاروا ينظرون إليك على انك زبون ولم تعد معرفة»، يشير بعد ذلك إلى آثار عدد من المتغيرات الاجتماعية الحداثية التي صاحبت الطفرة مثل دخول الخادمات إلى البيوت السعودية والتغييرات التي طالت سوق العقار على مستوى الأخلاق ـ لا مجرد الأرقام ـ وتزايد ابتعاث الطلاب السعوديين إلى الخارج، إلى أن ينتهي إلى احتفاظ الإنسان السعودي برجعيته أمام حداثة مكانة، إثر إسناد مهمة التطوير إلى الآخر حيث يقول متحدثاً بـ (نا). فالسعوديون«قادرون بغيرنا وعاجزون عن تمثل شرطنا الإنساني حتى صار المكان عندنا أرقى من الإنسان، وصار المكان هو الحداثي لإنسان لما يزل خارج اللعبة.. هي إذن حداثة في الوسائل ورجعية في الأذهان».

* الحداثة تخوض المعركة

* عنوان الفصل الحادي عشر«الموجة الثالثة: صدمة الحداثة في مجتمع محافظ» وهو بداية لمرحلة مختلفة في الكتاب إذ يختلط الذاتي بالموضوعي، كما تصعد فيه الحكاية إلى مستوى الإثارة انطلاقاً من عام 1985 موعد صدور كتاب «الخطيئة والتكفير» ليبث من خلاله النظرية النقدية النصية التي ستتحول ـ حسب المؤلف ـ إلى الريادة العربية، وشرح الغذّامي في هذا الفصل قصة ظهور ذلك الكتاب ثم ما قوبل به من ترحيب صارخ ورفض مماثل، وما أنتجه الكتاب من معركة صحافية نشطة كان محورها الكتاب ومؤلفه.

ويأتي ذكر اخطر تلك المعارك في الفصل الثاني عشر«الطرد الأوروبي ـ فضيحة الحداثي»، حيث نشرت إحدى الصحف المحلية خبراً على صفحتها الأخيرة يصفه الغذّامي بقوله:«لقد كان الخبر تهييجياً وتعريضياً بشكل سافر، ويوحي بمؤامرة لتلبيس تهمة السرقة أو أن شخصاً ما قد كتب الكتاب لي»، ثم يورد مجموعة المحاولات الفاشلة التي تمت لتقريب وجهات النظر بينه وبين عدد من الصحافيين الذين ناصبوا كتابه ـ ومشروعه ـ العداء.

«معركة الجامعة» عنوان الفصل الثالث عشر الذي ينتقل فيه المؤلف إلى جانب ظل مخفياً عن الجمهور العام، الذي قد يعلم الكثير عن المعارك الصحافية، وهنا يستعرض قصته مع قسم اللغة العربية في جامعة الملك عبد العزيز بجدة، وهو القسم الذي أسسه عام 1978، إذ تشكلت عصبة نسقية اتخذت موقفاً بالغ العدائية من الغذّامي، وتدرج التعبير عن ذلك الموقف انطلاقاً من إلصاق قصاصات الصحف التي تهاجمه على باب مكتبه، ومروراً بكتابة التقارير عنه والتحصل على تسجيلات لمحاضراته وبعثها إلى دوائر إعلامية وأمنية ودينية، وانتهاء بمعاقبة طلابه المتميزين.

الفصل الرابع عشر«الحداثة في خطب الجمعة» هو أكثر فصول الحكاية إثارة ويبدأه الغذّامي بالإشارة إلى خطبة الجمعة في مسجد جامعة الملك عبد العزيز فيقول عنها وعن الخطيب «راح فيها يتحدث عن الحداثي الذي يصلي مثل صلاتنا.. وهو مخرب ومغترب وعلماني واستطرد ليذكر باقي قائمة الشرور من ماسونية وماركسية وإلحادية، كان يتكلم وعينه في عيني ولم تكن بيني وبينه سوى أمتار»، ثم يشير إلى تكرار المشهد في مسجد آخر مما قاده إلى الاقتصار على الصلاة في مسجد الأمير متعب لأن الإمام احد تلاميذه، ثم يتحدث عن شريط مسجل يتناول الحداثة ويصفه بـ«حاخام الحداثة، ورسول البنيوية»، ويتلوه طوفان الكتب والمقالات المهاجمة، بعد ذلك توالت الرسائل الكيدية والتوبيخية.

وبينما تجاهل الغذّامي الرد على كل ذلك، فإنه اشترك في حوار حول البنيوية مع احمد الشيباني في ملحق (الأربعاء) في صحيفة «المدينة»، قبل أن تأتي مواقف الحداثيين المخالفين للغذّامي لأسباب منهجية أو علمية، إلا أن البعض تلبّس بالحداثة رغم رجعيته، حسب المؤلف، الذي يعطي مثالاً على هذا فيقول «الدكتور البازعي عينة على الموقف الأكاديمي المحافظ الذي ترعبه التحولات ولديه عقدة من النظرية والتفاعل الثقافي، ويرى أن الفكر النظري ما هو إلا نتاج لليهودية والماسونية العالمية، وانه مؤامرة أو انه خيانة وطنية»، إلى ذلك أورد الغذّامي في نهاية هذا الفصل حكاية رجل يقول عنه «سأسميه حمدوس، وهو مريد من نوع خاص جداً» وهي حكاية غامضة.

* نهاية الحداثة

* الفصل الخامس عشر تحت عنوان «جماعة منطق النص» ويروي فيه تجربة جماعة نقدية تضم المهتمين بالنقد النصوصي ـ الألسني، تشكلّت في جدة برئاسته، ثم يروي الفصل الأخير من حكايته التي تأتي ضمن الموجة الثالثة التي ينتقل فيها إلى الرياض 1988، حيث تمت الموافقة على طلبه الانتقال إلى جامعة الملك سعود خلال ساعتين.

الفصل السادس عشر«نهاية الحداثة ـ ما بعد الحادثة» يتحدث فيه أولاً عن حساب الخسائر، مشيراً إلى أن العامين 1987 و1988 شهدا الكثير من المواقف الشخصية المؤلمة، لعل من أبرزها سؤال إحدى المدرسات في جدة بناته عما إذا كان أبوهن كافراً، ولم ينس الغذّامي أن يشير إلى خسائر زملاء الحركة مثل عرقلة حصول سعيد السريحي على درجة الدكتوراه وحرمان محمد الثبيتي من جائزة الإبداع في النادي الأدبي بجدة.

قبل أن يختتم هذا الفصل الأخير برفض مقولة نهاية الحداثة حيث يقول «من غير المعقول معرفياً ومنهجياً أن نقبل بهذا القول، ولا يمكن لأمر كأمر الحداثة أن ينتهي في أي مجتمع كان، مهما بلغت محافظة المجتمع ومهما صار من انكسارات.. وليس للحداثة أن تنتهي، ومن المحال افتراض ذلك أو تصوره».