مسلسل «الاجتياح» يجتاح الأراضي الفلسطينية بأبطاله الواقعيين
شغف للبحث عن أصول الشخصيات التي قدمت بصورة كاريكاتورية
الاربعـاء 17 ذو القعـدة 1428 هـ 28 نوفمبر 2007 العدد 10592
جريدة الشرق الاوسط
الصفحة: فضاءات
القدس: أسامة العيسة

الفلسطينيون الذين انشغلوا في شهر رمضان الفائت بمسلسل «باب الحارة»، يعيدون الآن اكتشاف مسلسل آخر بث في ذلك الشهر على المحطة اللبنانية للارسال (إل.بي.سي) يتعلق بما عايشوه قبل سنوات قليلة بشكل مباشر. يحمل المسلسل اسم «الاجتياح»، ويحاول مؤلفه الفلسطيني رياض سيف، معالجة فترة اجتياح الجيش الإسرائيلي للمدن الفلسطينية في ابريل (نيسان) 2002، خصوصا ملحمة مخيم جنين، فيما عرف بعملية السور الواقي، التي ارتكب فيها الجيش الإسرائيلي عدة مجازر في نابلس، وبيت لحم، ورام الله، وجنين، وحاصر مقر ياسر عرفات رئيس السلطة الفلسطينية السابق. المسلسل يتحدث عن شخصيات معروفة بالاسم وأحداث ما تزال غضة وحاضرة في الذاكرة، وهو ما يثير الكثير من المقارنات بين الواقع وما يقدمه المسلسل، ويبعث التساؤلات حول سبب هذه الهوة الكبيرة بين الحقيقة وما يقدمه التلفزيون على انه تصوير فني لها.

سبب الاهتمام الفلسطيني بمسلسل «الاجتياح» الآن، هو إعادة العديد من المحطات المحلية الفلسطينية بثه. وقال المؤلف بان محطة «ام بي سي» تستعد لعرضه، وهو إن حدث فسيكون مناسبة لاهتمام أوسع.

ويطرح المسلسل قضايا، أصبحت كلاسيكية، لكن الأعمال الفنية لم تنجح في إيجاد أجوبة مقبولة عنها، مثل تناول مواضيع ما زالت مفاعيلها طازجة، والحديث عن أشخاص ما زال معارفهم احياء، وصورة اليهودي، وأيضا صورة المقاوم، وهذا الإصرار الغريب من قبل الفنان العربي على تقديم صور شائهة وغير واقعية عنهم. ابرز شخصيات المسلسل، يوسف ريحان (أبو جندل) المقاوم الفلسطيني الذي قاد معركة الدفاع عن مخيم جنين.

وأبو جندل، في حياته الواقعية شخصية شديدة الدرامية، وبلغة أهل الدراما (كراكتر) مميز، يقول ذلك عنه كل من عرفه. فهو عمل ضمن قوات الأمن الوطني الفلسطيني، وجمع بعفوية تامة في شخصيته، مشاعر وطنية، واقداما، واندفاعا، وتهورا، وغضبا، وحس فكاهة، ولامبالاة، وضيقاً بالرسميات..الخ. وأبو جندل في المسلسل من الشخصيات القليلة التي نجح الكاتب في رسم أبعادها المختلفة، وكان من الممكن أن يكفيه هذا، لو ركز عليها، وجعلها محوراً، ولم يتوسع في الزج بشخصيات عديدة كثيرة أخرى.

ونجح الممثل السوري، عباس النوري في فهم روح الشخصية، بشكل لافت، ولكن أحد مظاهر ضعف شخصية أبو جندل على الشاشة، إظهاره كشخص مسؤول، يجتمع في المكاتب والغرف، وهو غير صحيح. وتوسع المسلسل في مشاهد الاجتماعات في الغرف والمكاتب خلال التحضير لمعركة مخيم جنين، وهو أمر بعيد، عن الدقة، حيث اختلطت جملة أمور في صنع ملحمة المخيم، منها رغبة المقاومين، في صنع ملحمة، رغم انهم كانوا يعرفون نتيجتها سلفا. ويطرح نموذج أبو جندل الواقعي، الأسئلة حول الشخصيات التي ظهرت في المسلسل بأسمائها مثل محمود الطوالبة، الذي يعتبره البعض القائد الحقيقي الآخر لمعركة مخيم جنين، والذي كان يعلم ما ستؤول إليه، ورفض الخروج، مع رفاقه من المخيم، قائلا بأنهم أرادوا أن يقدموا نموذجا للأجيال المقبلة، على حساب حيواتهم الشخصية. ويمكن أن يثير هذا الآن أسئلة، حول مدى صوابية ما فعله المقاومون؟ ولماذا لم يتجنبوا المعركة المحددة نتائجها سلفا؟ رغم أن موقف قيادات فصائلهم كانت غير ذلك، والى أي مدى نجحوا في إعطاء أمثولة تستمر على مدى الأجيال؟

وإفصاح المؤلف عن أسماء شخصيات المسلسل الواقعية، وهو ما لم يكن مضطرا له، اثار شغف البحث عن أصول شخصيات أخرى، مثل المقاوم مصطفى. وهو شخصية محورية، يرتبط بقصة حب مع إسرائيلية تدعى يائيل، تأخذه معها إلى مدينته حيفا، التي يجولان فيها، ويقضيان ليلة في إحدى شققها، كعاشقين. وهو ما أثار سكان مخيم جنين كما يقول الصحافي علي سمودي، الذي واكب معركة جنين أولا بأول. والسبب استهجانهم لقصة حب تنتهي «بمظهر مناف للتقاليد الفلسطينية بشكل مطلق».

والمثير للاستهجان في شخصية يائيل، قدرتها على النفاذ إلى الحواسيب الإسرائيلية وتقديم المعلومات والأسرار إلى حبيبها مصطفى، كذلك حركتها ووصولها إلى المخيم المحاصر، وهو ما كان مستحيلا على ارض الواقع.

والنموذج الواقعي الذي يذكر بمصطفى، هو زكريا الزبيدي، قائد كتائب شهداء الأقصى في مخيم جنين الذي ارتبط بعلاقة مع الناشطة اليسارية تالي فحيمة، التي اعتقلت بسببه، ولكن الفرق بين النموذجين كبير. ومن المؤكد انه من حق المؤلف خلق الشخصيات التي يريدها، إذا كانت تخدم العمل الفني، ولكن هذا لا يمنع طرح أسئلة حول جدواها الفني، خصوصا في ما يتعلق بإسرائيلية تتمكن من النفاذ إلى أجهزة الحواسيب الحساسة، وتزور المقاوم في الجبال، ثم في المخيم، وتمنحه الأسرار والكثير من العواطف. والغريب ان الطرف الذي يحصل على المعلومات السرية من الاسرائيليين، سواء في نموذج مصطفى او غيره، نجده يحقق انتصارات على الشاشة، ويمنى بخسارة اكيدة على ارض الواقع. وإذا كانت صورة يائيل اليهودية، بالشكل الذي ظهرت فيه، لم تكن مقنعة، فثمة ظلال كبيرة حول صور الإسرائيليين الآخرين في المسلسل، الذين لم يتمكن المؤلف من تقديمهم كشخصيات من لحم ودم، رغم انه امتلك فرصة مهمة، للخروج من صورة الإسرائيلي النمطية في الفنون والآداب العربية.. والنموذج الصارخ على ذلك، هي صورة الإسرائيلي الذي يحقق مع الممرضة المناضلة، شقيقة مصطفى. وهي تناقض الصور الحقيقية لرجال المخابرات الإسرائيلية، الذين يتلقون دراسة منتظمة في اللغة العربية، والدراسات الشرق أوسطية، والعادات الفلسطينية، ويخوضون تدريبات ميدانية، ويعيشون متخفين في المجتمعات العربية.

ومن المرجح أن المؤلف، واجه صعوبة في رسم صورة وحشية للمحقق الإسرائيلي، الذي يمكن أن يكون «وحشا»، لكن بقفزات من حرير، بامتلاكه آليات التفكير المنظم، وقدرة على المناورة، وبين يديه حجم هائل من المعلومات، مستخدماً جميع الوسائل ومن بينها النكات والأمثال الشعبية وغيرها من مكونات ثقافية عربية لتحقيق غاياته. وتظهر شخصية المحقق الإسرائيلي في المسلسل مشوهة ومرتهنة لتراث طويل، من الصور النمطية عن الشخصيات اليهودية في الدراما العربية.

وتظهر المشاهد، كيف أن المناضلة المعتقلة تخوض نقاشات مع المحققة والمحقق، تفصح فيها عن مشاعرها ضد الاحتلال، بقوة ووضوح، وهو عادة ما لا يحدث، حيث يكون المعتقل أو المعتقلة في حالة من التوتر الشديد والخوف والارتباك والإرهاق نتيجة التعذيب المتواصل والجوع وعدم النوم. ويحاول المعتقل إخفاء أية معلومة، وينكر أصلا أي علاقة له بالمقاومة.

ولكن في المسلسل تظهر البطلة كـ «امرأة خارقة»، تهدد بتنفيذ عملية تفجيرية في اسرائيل، إذا تم تصويرها في شريط مخل. ونحن نعلم كم هو موضوع التفجيرات هذا حساس بالنسبة لإسرائيل، حتى انه جرت محاكمة لفلسطيني حلم بتنفيذ عملية. وتكثر البطلة من البصاق في وجه المحقق والمحققة من دون أن يكون لديهما أي ردة فعل، وهو عكس واقع التجربة الاعتقالية التي جربها نحو ثلث الشعب الفلسطيني منذ بداية الاحتلال. ولا يمكن أن توجد مثل هذه الحالة التي يمكن أن يطلق عليها «ديمقراطية المحققين»، على الأقل في ما يخص الاحتلال الإسرائيلي. فمن هو المحقق في أي جهاز أمني في العالم الذي يبصق عليه، مراراً من يحقق معهم، ولا يتخذ أي إجراء ضدهم.

تنسحب الصورة المشوهة لليهودي، التي تبناها المسلسل، على شخصية شاؤول موفاز، رئيس الاركان الإسرائيلي ابان الاجتياح، الذي بدا من خلال تصريحاته وتحركاته على الأرض كما يذكر المشاهد العربي، رابط الجأش حتى وهو في قمة غضبه خلال سنوات الانتفاضة، كذلك عندما اشرف على ارتكاب مجزرة مخيم جنين. لكن في المسلسل، يظهر الممثل حسين نخلة، كشخصية عصبية، كاريكاتورية، أشبه بالجنرالات الذين يصلون إلى مناصبهم من دون موهبة أو دراسة.

ولا شك أن لحظات توتر شديدة، ومخيفة راودت قائد الجيش الأكثر تجهيزا وحرفية في الشرق الأوسط وهو يحاصر مخيم جنين، ولكن لم ينجح الممثل في نقل ذلك، وظهر الإسرائيلي بصورته النمطية المهزوزة، أما المقاوم فهو بطل دائماً. لا يوجد شبه بين موفاز في الواقع، وصورته المشوهة على الشاشة، إلا بالصلعة التي شكلت العامل المشترك بينه وبين الممثل نخلة.

ولم يختلف الأمر كثيرا، بالنسبة لصورة رجل الدين المسيحي وهو يرحب بالمقاومين الذين لجأوا إلى كنيسة المهد، مع الساعات الأولى للاجتياح. هذه شخصية معادلة للراهب إبراهيم فلتس، ومن يعرف فلتس يرى بان الممثل قدم صورة كاريكاتورية أيضا عنه، وظهر رجل الدين المسيحي، في صورته النمطية، طيباً وساذجاً، فيما المشاهد التي تتحدث عن حصار الكنيسة، ليس لها كثير علاقة بواقع الأحداث كما جرت، حيث كانت هناك تعقيدات كثيرة، اكبر من أن تخفيها طيبة مفتعلة على شاشة عربية.

ورغم أي شيء يقال عن المسلسل، فقد استدعى اهتماما وتعليقات، زخرت بها مدونات فلسطينية على الشبكة العنكبوتية، واختلفت فيه الآراء. وشارك المؤلف نفسه في التعليق، قائلا: «صدقوني، هذا المسلسل كان اعتصارا كبيرا لي ولأخي المخرج شوقي الماجري. كان الهدف نقل صورة الإنسان الفلسطيني، والأهم مخاطبة الآخر بلغة يفهمها. شهداء الشعب الفلسطيني لا يموتون حبا بالموت، لكن كراهية للظلم والإرهاب وحبا في حياة كريمة آمنه لابنائهم وللجيل المقبل. هذا الظلم المفروض عليهم ليس من إسرائيل فقط وانما من العالم. هذا الخطاب ليس للداخل. فكفانا مخاطبة أنفسنا. هذا الخطاب ستتم ترجمته للعالم. واتمنى على الجميع أن يعيد قراءة مسلسل الاجتياح لان معظم الناس لم يشاهدوه كما يجب».