البير كامو.. مبدعا جزائريا

كتب صاحب «الطاعون» في أواخر حياته أن التطرف هو الأكثر خطرا على الجزائر ومستقبلها

TT

نعم، البير كامو مبدع جزائري قلباً وروحاً حتى وإن كره أولئك الذين استشفوا رائحة عنصرية ضد العرب في رائعته «الغريب»، أو هم أدانوا موقفه من استقلال الجزائر ناسين أن هذا البلد لم يكن أرضاً بالنسبة إليه، وإنما أم شرب من ثدييها ذلك الحليب النادر، والعزيز المنال، الذي لا يغذّى به سوى كبار المبدعين أمثاله. ويزعم البعض أن البير كامو ظل يدافع حتى اللحظة الأخيرة من حياته عن الجزائر الفرنسية، وهذا ليس صحيحاً بالمرة، وهو ما يتضح لنا عند قراءتنا للمقالات التي خصصها لهذه المسألة عندما كانت المعارك مشتعلة بين الجيش الفرنسي وقوات جبهة التحرير الوطنية الجزائرية. ففيها ندد بشدة بالعنف لدى الطرفين المتحاربين، مبيّنا أن الحل الأفضل هو الحوار، والتعايش السلمي بين الفرنسيين والجزائريين، والإقرار بحقوق هؤلاء بالعيش أحراراً في بلادهم، والتمتع بحقوقهم المشروعة كاملة دون نقصان. وفي رسالة بعث بها في خريف 1955 إلى عزيز كسوس، المناضل الاشتراكي الجزائري هو يقول: «ان فرنسيي الجزائر الذين تقول مشكوراً بأنهم ليسوا جميعا متعطشين للدم، يعيشون في هذه البلاد منذ أزيد من قرن وعددهم يزيد على المليون. وهذا كاف لكي تكون المقارنة صعبة بين الاوضاع في تونس والمغرب، حيث الحضور الفرنسي ضعيف وجديد إلى حدّ ما. ان «الحالة الفرنسية» لا يمكننا أن نمحوها من الجزائر، والحلم باختفاء فجائي لفرنسا من الجزائر صعب التحقق. ولكن، مقابل ذلك، ليس هناك موجب أن يعيش تسعة ملايين من الجزائريين على ارضهم كما لو أنهم منسيّون. والحلم بمحو وجودهم، وبأن يعيشوا كما لو أنهم جموع صامتة ومستعبدة هو ايضا مستحيل، ومن ضرب الهذيان. ان فرنسيي الجزائر مشدودون إلى ارض هذه البلاد بجذور جدّ قديمة وجد قوية، بحيث يصعب علينا اجتثاثهم منها. غير أن هذا لا يعطيهم الحق حسب رأيي لكي يقطعوا جذور الثقافة والحياة العربية».

وفي نفس الرسالة، يواصل البير كامو حديثه قائلا: «نعم، الشيء الأساسي هو الحفاظ على مجال حتى ولو كان ضيّقا لحوار محتمل. والشيء الأسلم هو توفير انفراج حتى ولو كان خفيفاً وعابراً. ولبلوغ هذين الهدفين على كل طرف أن يدعو انصاره إلى الهدوء. ان المجازر التي تستهدف المدنيين الفرنسيين والتي لا يمكن تبريرها بأي حال من الأحوال لا ينجرّ شيء آخر عنها غير المزيد من التدمير الأرعن على العرب الجزائريين وممتلكاتهم. فكما لو أننا أمام مجانين هائجين، واعين بالزواج الإجباري الذي لا يمكنهم التخلص منه، قرروا أن يفنوا بعضهم بعضا «...». وكل طرف بإفراطه في الجنون والعنف، هو لا يفعل شيئاً آخر غير تبرير شطط الآخر، وشرهه للدم، وعاصفة الدم التي ضربت بلادنا، لا يمكنها إلا أن تزداد ضراوة حتى الخراب النهائي». وكان البير كامو أول من لفت النظر إلى المظالم التي يتعرض لها الجزائريون في بلادهم وذلك من خلال التحقيقات التي نشرها في جريدة: (ALGIR REPUBLICAIN)، خلال الأربعينات، والتي وصف فيها بدقة أوضاع الفلاحين الفقراء في جبال الأوراس وظلم المعمرين الفرنسيين لأصحاب الارض الحقيقيين. وفي التحقيقات المذكورة انتقد البير كامو بحدة السياسة الاستعمارية وطالب بإجراء إصلاحات فورية قبل فوات الأوان.

والحقيقة ان الجزائر حاضرة بقوة في جل أعمال البير كامو بشمسها الوهاجة، وبحرها الأزرق، وبغابات صنوبرها، وفقرائها في احياء «القصبة» و«باب الواد». وكان في الخامسة والعشرين من عمره لما كتب يقول: «صباح رائق ومبلّل بالماء طلع متألقاً على البحر الصافي، من السماء الغضة مثل عين والتي غسلت بالمياه أكثر من مرة حتى اختصرت بسبب هذه الافتعالات المتعاقبة الى نسيجها الأكثر دقة وصفاء. ينزل ضوء مترجرج يهب كل بيت وكل شجرة دفقا دقيقا، وحركة افتنان. ربما تكون الأرض قد انبثقت للوجود وسط ضوء كهذا في الصباح الأول للعالم».

في نص آخر يكتب البير كامو: «ان الشيء الذي نفتن به في الجزائر، والذي يعيش منه الجميع، هو البحر في منعرج كل شارع»، من الجزائر تعلم كامو البساطة، وطول حياته ظل يمقت الجشع، وحبّ الثروة والتهالك على الربح السريع: «أنا لا أعرف كيف امتلك، وأنا ظنين بتلك الحرية التي تختفي حالما يستولي على الكائن جنون التملك، أنا أحبّ بيوت العرب والاسبان العارية». وتحت ضوء الجزائر الساطع والوهاج، رضي كامو بالفقر والحرمان اللذين عانى منهما في فترتي الطفولة والشباب، بل ان هذا الضوء هو الذي قاده في ما بعد لتوضيح فلسفته في الحياة، وعلمه أن التاريخ ليس كل شيء كما يقول في نصه البديع عن ضاحية «تيبازة» بالقرب من الجزائر العاصمة، الذي كتب في مطلعه يقول: «في الربيع، البحر مدرع بالفضة، والسماء زرقاء، والاطلال مغطاة بالزهور والضوء فقاقيع كبيرة فوق اكداس الصخور. ويحاول النظر دونما جدوى ان يلتقط شيئاً آخر غير قطرات الضوء والألوان التي ترتجف على ضفاف الأهداب. والرائحة الثقيلة للنباتات العطرة تكشط الحنجرة وتخنق الإنسان في القيظ الهائل، وبالكاد، في عنق المشهد، أتمكن من أن أرى الكتلة الدهماء لـ «شنوه» التي تنبت في الهضاب المحيطة بالقرية، وتهتزّ بوتيرة ثابتة وثقيلة لكي تمضي نحو البحر وتقرفص هناك».

وفي ضوء الجزائر المترجرج، يسبح «مارسو» بطل رائعة كامو «الغريب» من البداية وحتى اللحظة التي يطعن فيها العربي على الشاطئ فيرديه قتيلا: «عندئذ ترجرج كل شيء، وجرف البحر ريحاً حارة وثقيلة، وخيّل إليّ أن السماء انفتحت على مدى مسافة واسعة لكي تمطر ذهباً، وتوتر كامل جسدي فضغطت بيدي على المسدس فأطاع الزناد ولمست البطن الناعم للمسدس، ووسط تلك الضجة الجافة المهمة بدأ كل شيء، وأدركت أنني حطمت توازن النهار والصمت الاستثنائي لشاطئ كنت فيه سعيداً». لكأن تلك الجريمة العبثية التي اقترفها «مارسو» على الشاطئ الجزائري هي الإشارة الأولى لتلك الحرب الطويلة التي أحرقت الأخضر واليابس، وذهب ضحيتها مليون شهيد، والتي لا يزال الجزائريون يعانون من تبعاتها حتى هذه الساعة.

وتبدو رائعة كامو الأخرى «الطاعون» التي تدور أحداثها في وهران وكأنها ترمز إلى الاحداث المأساوية التي تعيشها الجزائر منذ مطلع التسعينات وحتى هذه الساعة. والكارثة التي تضرب وهران في رواية كامو تشبه إلى حدّ كبير الكارثة الحالية التي يتخبط فيها المجتمع الجزائري بأسره. ولعل العودة إلى قراءة هذه الرواية، أعني بذلك «الطاعون»، تمنح الجزائريين اليوم القدرة على تجاوز محنتهم. وقد يكون البير كامو استوحى موضوع روايته هذه من الكوارث التي حلّت بالجزائر وتونس والمغرب في فترات سابقة. وفي كتاب «أنخاف أهل الزمان»، يحدثنا المؤرخ أحمد ابن ابي الضياف، عن مرض الطاعون الذي ضرب مدينة تونس في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، ويصف لنا حيرة الناس والقضاة والأعيان ورجال الدولة، تماماً مثلما يصف لنا كامو وضع أهالي وهران عند انتشار الفئران المريضة في جميع انحاء مدينتهم. بل ان احمد بن ابي الضياف يصف لنا بعض الشخصيات التونسية خلال تلك المحنة والتي تبدو شبيهة إلى حد كبير بشخصية الدكتور ريو البطل الرئيسي لرواية «الطاعون»، والذي يبدي شجاعة كبيرة في مقاومة مرض الطاعون في مدينة وهران. وتحضر الجزائر مرة أخرى في مجموعة كامو الشهيرة «المنفى والملكوت». ففي قصة «المرأة الزانية» تمضي الزوجة إلى الصحراء بصحبة زوجها في حافلة قديمة يغطيها الغبار وتعج بالفلاحين الغلاظ الكئيبين. وذات ليلة مرصعة بالنجوم، تكتشف جمال الكون، لكأن هذه المرأة هي كامو نفسه الذي اكتشف جمال الجزائر السري، عكس اولئك المعمرين والعسكريين الذين كانوا يعتبرون الجزائر بلداً جافاً وقذراً، غير أنهم يرفضون مع ذلك أن يتركوه حراً. وفي قصة «الرجال الصامتون»، تموت ابنة صاحب المعمل بمرض غريب. ويبدو موتها وكأنه عقاب لوالدها الجشع الذي يسلّط عذاباً يومياً على عماله المساكين. وأما قصة «الضيف» فهي برأيي أروع هذه القصص جميعاً، وفيها يروي البير كامو قصة معلم يعمل في مدرسة ريفية تقع عند سطح هضبة جرداء. وتدور الاحداث خلال الشتاء، وبسبب الثلج المتهاطل بغزارة يصعب على التلاميذ القدوم إلى المدرسة. وهكذا يظل المعلم دارو (هذا هو اسمه) وحيداً، ثم يأتي عسكري بعربي موثوق اليدين ويطلب منه أن يسلّمه إلى السلطات في القرية الأخرى. وبطبيعة الحال، يخاف المعلم ويبيت ليلته ساهراً محاولاً إيجاد حلّ للمأزق الذي وجد نفسه محبوساً فيه.. وفي الغد يصطحب المعلم دارو «ضيفه» العربي. وبعد أن يسير معه مسافة معينة، يطلب منه أن يختار بين اتجاهين: الشرق، حيث المدينة والبوليس، والجنوب، حيث الحرية والقبائل. غير أن «الضيف» العربي يختار الشرق، وعندما يعود دارو إلى المدرسة يجد الجملة التالية مكتوبة بخط غليظ على السبورة: «لقد سلمت أخانا إلى البوليس.. وسوف تدفع الثمن». وتبدو هذه القصة كما يقول الناقد مورفان لوباسك كما لو أنها تجسيد حقيقي لمأساة كامو أمام المسألة الجزائرية. ذلك أن صاحب «الغريب» وجد نفسه هو أيضاً، هو الذي عاش جزءاً كبيراً من حياته في الجزائر ومنها استوحى فلسفته في الحياة، ومجمل أعماله الابداعية أمام تناقضات رهيبة ازدادت استفحالاً مع احداث الحرب التحريرية. وعندما قضى في ذلك الحادث العبثي المريع عام 1960، كانت الغصة لا تزال كبيرة في حلقه والجرح عميقاً في روحه بسبب ما حلّ بالجزائر وطنه الأم.

وثمة جانب آخر لا بدّ من الإشارة إليه، وهو أن كامو لم يكن خائفاً على مصير الجزائر بسبب الحرب وحدها، وإنما من نتائج تلك الحرب ومضاعفاتها بقطع النظر عن المنتصر والمهزوم. وفي آخر حياته لمّح كامو في حين كانت الجزائر لا تزال تنزف دماً بسبب الحرب والتي كان يحب أن يسميها بـ «الجريمة الشمسية»، إلى أن التطرف سوف يكون الأكثر خطراً على الجزائر وشعبها مستقبلاً. وها نحن نرى بعد مرور عقود طويلة على وفاته انه كان على حق. واليوم يعج حي «باب الواد»، حيث امضى كامو طفولته، بجحافل المتطرفين في جلابيب افغانية وباكستانية، يذبحون الأطفال والنساء في عتمة الليل، وينشرون الموت والفزع في كل مكان، لقد قال البير كامو ذات يوم: «ان مملكتي بأسرها هي من هذا العالم»، والحقيقة أنه كان يقصد الجزائر من خلال كلامه هذا.