الشاعرالكردي شيركو بيكس: هناك شرخ كبير في حريتنا

وزير الثقافة السابق في الحكومة الكردية بكردستان العراق لـ «الشرق الأوسط»: واقع التجزئة القومية أدى إلى تجزئة ثقافية

TT

لاسماء البشر عند الكرد معان ومدلولات عميقة تشكل البيئة الجبلية الوعرة، والساحرة لارضهم منبعها الاول.

يشترك الكرد في هذا، وفي امور أخرى كأساليب القمع الوحشية، والتهجير والابادة.

واسم الشاعر شيركو بيكس مثال طيب على هذا، فشيركو كلمة مركبة يعني مقطعها الاول (شير) أسد، والمقطع الثاني كو (جبل).

اما بيكس اسمه العائلي، فإنه يعود لوالده الشاعر فائق بيكس وبيكس يعني.. الوحيد! فهو اذن، اسد الجبل الوحيد! زار شيركو بيكس لندن أخيرا، حيث القى مجموعة من قصائده الجديدة في أمسية في ديوان الكوفة نظمها اتحاد الكتاب والصحافيين العراقيين، وبهذه المناسبة هذا لقاء معه:

* في مقدمة الطبعة العربية لديوان شيركو بيكس «ساعات من قصب» كتب الشاعر العراقي سعدي يوسف معرفا ببيكس وشعره: «رحلة شيركو بيكس المديدة في الشعر والثقافة والحياة ظلت رحلة اكتشاف ودهشة وصيرورة، وفي مسارها الفني، وبه، اغتنى الشعر، وتجوهر، وعاد الى البدء ايماء واشارة الى واقع آخر»... أي واقع آخر هذا الذي يعنيه سعدي يوسف برأيك؟

ـ واقع تغير اللغة بكل ابعادها، رسم أو قول هذه الايقاعات التي قلما نسمعها. وايضا خلاص الشعر ليخرج من اطاره، وينفتح على فضاءات جديدة. صحيح ان كل شيء يأتي من الواقع لكن الابداع هو حفر في داخل اللغة لايجاد اسرار الشعر، ولهذا علاقة كبيرة بالتجربة، بالعشق الذي يأتي في عمر شعري معين، والذي يدونه لا يمكن ايجاد واقع آخر. والابداع هنا، هو كيف يمكن ان يصبح المألوف غير مألوف، وبالعكس.

* بدأت الحداثة الشعرية في كردستان بالراحل عبد الله كوران مثلما بدأ الشعر العربي حداثته بالسياب والملائكة وغيرهما، ما هو التغيير الذي احدثه كوران في الشعر الكردي، وما الذي بناه جيلك على الحداثة التي أتى بها كوران؟

ـ الحداثة الشعرية الاولى في الشعر الكردي، تعود الى ما بين الحربين العالميتين بتأثير من الموجات الحداثوية الادبية التي اتت عن طريق تركيا الملاصقة لاوروبا، ثم انتقلت الى المناطق الابعد.

وهنالك ميزة ينبغي الاشارة اليها في شعراء الحداثة الاوائل من امثال شيخ نوري وشيخ صالح وكوران، وهي اجادتهم للغات عديدة كالعربية والفارسية والتركية، بالاضافة الى تمكن كوران من الانجليزية التي مكنته من الاطلاع على الشعر الرومانسي الانجليزي (بايرون ـ شيللي)، ونتيجة لهذه التأثيرات، وبحثه الدؤوب قام بنقلة مهمة في الشعر الكردي. وغير كوران الشكل الشعري الذي لا يتغير الا بتغيير النظرة الى الحياة بشكل عام ساعده على ذلك التجديد الذي احدثه قبله الشاعر الكبير بيره ميرد في لغة القاموس الكردي التي عاد بها الى لغة الناس النقية.

كما ازال كوران من شعره اوزان العروض العربية التي كانت سائدة بين الشعراء الكلاسيكيين الكرد، واعتمد على الاوزان الشعرية في الفولكلور الكردي التي كان شعراء منطقة هورامان (الارض الكردية الممتدة بين العراق وايران) ما زالوا يكتبون بها.

واستخدم قصص التراث التي كانت تعتبر جزءا من الروح الكردية، وعمل على صياغة فنية ودرامية للغته الشعرية من خلال التصاقه بلغة الحياة اليومية.

وكرائد للشعر الكردي كان لكوران تأثيره البالغ في جيلنا، فأنا شخصيا لم ابدأ تكويني الشعري من الشعراء الكلاسيكيين، وانما بدأته من خلال حبي لشعر كوران، وكذلك الشاعر المجدد هردي، فشعرهما كان أقرب الى روحي، وتطلعاتي الشعرية.

التغير الآخر حدث في خارطة الشعر الكردي مع بداية السبعينات من القرن الماضي بانفتاح، وتفجر اكثر في اللغة، ولم يتوقف هذا على شاعر معين، بل على مجموعة من الشعراء كان لكل منهم دوره في الانفتاح والتجديد مثل لطيف هلمت وعبد الله به شيو، ورفيق صابر، وانور قادر محمد. فبهم تغير شكل الشعر، ومضمونه، واتسعت رؤية الشعراء الى افاق اكثر تفتحا على الشعر العالمي، والانساني.

شمل التغيير الوان الشعر ايضا، وبدأت مرحلة تجريبية داخل الشعر الكردي سواء في كتابة القصائد القصيرة، والدرامية، والطويلة.

* ولكنكم كنتم على اتصال وثيق بالشعر العراقي، والعربي ايضا.

ـ هذا صحيح، فجيلنا كان متأثرا بالابداعات الشعرية العربية سواء في العراق أو خارجه، وشخصيا كانت ولا تزال كل قراءاتي بعد اللغة الكردية بالعربية.

وكان أول اتساع في مجال رؤيتي في بغداد، خاصة بعد ان انتقلت اليها بحكم الوظيفة، ولعدة سنين.

كانت الحركة الشعرية في بغداد لا تقارن باتساعها. بمدينة السليمانية التي اتيت منها. كما ان المطبوعات التي كانت تصدر فيها، وما يردها من كتب ومجلات من لبنان والقاهرة، ودمشق، وكذلك حيوية حياتها الثقافية من تشكيل، ومسرح، وادب بالاضافة الى اختلاطي بالشعراء العراقيين كل ذلك ساهم في تطوير رؤيتي، وادواتي الفنية، وكذلك الشعراء الآخرين من جيلي سواء من كان يقيم منهم في بغداد، أو من يتردد عليها.

كنا نحضر الامسيات الشعرية، ولأول مرة تعرفت على شعراء مشهورين كالبياتي، وفاضل العزاوي، وخالد علي مصطفى، وحسب الشيخ جعفر، وغيرهم، وبنقاد كياسين النصير وفاضل تامر.

كنا نجد في احاديثهم ومناقشاتهم اشياء جديدة، ونسمع ما كنا لم نسمعه من قبل، هذا علاوة على متابعتنا المستمرة للاصدارات الشعرية الجديدة.

* جرى اعتماد قياس الحداثة الشعرية والتشكيلية في العراق على نظام العقود، فالسياب والبياتي، وجواد سليم خمسينيون، وحسب الشيخ جعفر، وفاضل وضياء العزاوي ستينيون، وهناك سبعينيون وثمانينيون.. الخ. هل هناك نظام اجيال كردي مماثل في الشعر؟

ـ الجيل الستيني في كردستان كان مثل البركة الراكدة عكس جيل بغداد الستيني، وهو ما دفعنا في بداية السبعينات من القرن الماضي الى اعلان بيان (روانكه) التجديدي، وهي البداية الحداثوية الحقيقية لنا.

نعم، هناك نوع من التشابه بيننا، وبين الشعراء العرب العراقيين، ولكني اعتقد بأن الشعر لا يقتصر على زمن معين، وانما على الابداع والتجاوز.

* اشتغلت على كل الممكنات من الاساليب والطرق في كتابة النص الشعري، هل من جديد آخر؟

ـ التجديد في الشعر لا يحصل الا بعد التجديد في الفكر والرؤية، والشعر يذبل حين تكون له حديقة واحدة. يجب ان ننتقل من مكان الى آخر، ومن حديقة الى أخرى، ومن فضاء الى آخر. التجريب يلون المنجز، وشخصيا لم اتوقف عند محطة واحدة، وعملت على التنقل وتجربة اساليب مختلفة في كتابة الشعر.

دواويني الأولى كانت اعتيادية، ولكنني، ومنذ اواسط السبعينات، وتحديدا بعد كتابتي لمطولتي الشعرية (الرحيل) التي كتبتها، وانا منفي الى محافظة الرمادي، دخلت مرحلة مهمة في تجربتي الشعرية، وفي نفس الفترة بدأت بكتابة القصائد القصيرة التي اسميتها بالبوسترات الشعرية.

انتقلت بعدها الى كتابة جنس شعري آخر هو المسرحية الشعرية، فكتبت (كاوة الحداد) و(الغزالة)، ولكني لا استسيغ تجربتي هاتين لافتقارهما الى الدراما المسرحية رغم ان (الغزالة) اكثر نضجا من (كاوة الحداد).

حاولت بعدها ان اغير من نمط كتابتي للشعر، فبدأت بكتابة القصص الشعرية المستمدة جذورها من التراث الكردي، وصياغتها باسلوب آخر.

ومع بداية التسعينات من القرن الماضي حصل تغير آخر أكثر عمقا حين كتبت قصيدتي الدرامية المطولة (مضيق الفراشات) التي ترجمها الاديب آزاد برزنجي في هذا العمل اتسعت مساحات الشعر، والصور الشعرية، والالوان الممتزجة بسرد روائي، وهو ما كنت اطمح الى كتابته منذ سنين طويلة، واعتقد باني اضفت شيئا الى تجربتي الشعرية بهذا الديوان، خاصة بمزجي اللغة الشعرية باللغة النثرية.

ومنذ ذلك الوقت وانا اواظب على كتابة هذا النوع الادبي الذي يعرف ايضا بالقصيدة الملحمية رغم انهم يقولون ان عصر الملاحم قد ولى، ولكن الملاحم لا تزال حية في تاريخنا المعاصر، فحجم الكوارث والويلات، وايضا العشق لا يزال كبيرا، وربما لا تستطيع القصائد القصيرة ان تضمها مثلما لا يمكن لمعرض تشكيلي يقتصر على لوحات صغيرة، وآخر واسع مفتوح على كامل تجربة الفنان ان يلم بكل ابعاد الموضوع، وهذا ايضا يتوقف على ذات الشاعر اولا، ومن ثم كيف يسترسل في كتابة نصه الشعري. واخيرا فإن الابداع لا يقاس بالطول والقصر بالتأكيد.

* ذكرت بأن منفاك الاول كان محافظة الرمادي في جنوب العراق، ثم تعددت المنافي بعد ذلك، هل كان المنفى الوطن البديل لشيركو بيكس...

ـ كان لاسفاري، ورحلاتي داخل المدن الاوروبية تأثيرها في اتساع رؤيتي الشعرية بصورة عامة، ولكن هذا التأثير لم يدخل في عمق تجربتي، وبذا لا يمكن ان اوسم شعري الذي كتبته خارج كردستان بشعر منفى لأن احدى اهم سمات هذا النوع من الشعر ان يكون ممتزجا بحركة تلك المجتمعات، وهو ما لم يحصل معي، وربما يكون هذا نوعا من التقصير من جانبي لانني كنت اعيش فيها بجسدي فقط، فيما كانت روحي تحلق في سماء بلادي، ولذا كانت جل موضوعاتي مرتبطة اصلا بالواقع الكردي المعاش في كردستان.

* بعد عودتك الثانية من المنفى اسست دارا للنشر والطباعة في السليمانية باسم (سردم ـ العصر) هل تحدثنا عن ظروف تأسيس هذه الدار، وما يصدر عنها من مطبوعات؟! ـ تمكن الشعب الكردي في كردستان العراق بعد حرب الخليج الثانية من ادارة شؤونه بنفسه، ونتيجة لذلك حدثت طفرة في احياء الثقافة الكردية، ونشطت الحركة الادبية والفنية. وعندما عدت الى كردستان في عام 1998 (كنت ازورها بين الحين والحين) فكرت مع نخبة من زملائي من المثقفين والأدباء بتأسيس دار للطباعة والنشر مع شرط عدم خضوع مطبوعاتها لأي رقابة، وكان لنا ذلك، مع دعم لبرامجنا.

ومنذ ان بدأنا العمل قبل ثلاث سنوات ونصف السنة اصدرنا حوالى 150 كتابا باللغة الكردية في جميع مجالات الفكر والترجمة والتاريخ والادب.

واصدرنا مجلات شهرية وفصلية، وأخرى تصدر كل شهرين مرة مثل آينده الادبية، وسردم التي تعنى بالترجمة، وعلوم العصر، وروفار للتعريف بالشخصيات الادبية والفنية، كما عملنا على اصدار مجلة للشعر باسم «شعرستان». بإمكاننا اذن ان نقول باننا عملنا شيئا خلال السنوات القليلة الماضية!.

* من الواضح انك تحرص، وربما تتدرب على القاء قصائدك. هل تعطي اهمية خاصة للالقاء؟

ـ نعم، وأرى ان الشعر الذي لا يكون القاؤه جيدا يكون مثل الطائر المُنكفئ، والقاء الشعر بطريقة جيدة يجعله كالطائر المحلق. وفي قراءتي للشعر احاول ان الون صوتي، وان استعين بجسدي ايضا.

قال مايكوفسكي إن الالقاء نصف الشعر، وزاد عليه نزار قباني فقال إن %70 من الشعر القاء!.

وعلى أي حال فإن الالقاء مهم، ولذا اعطيه اهتماما كبيرا، وأرى ان الناس يتجاوبون مع طريقتي في القراءة، وليس لطريقة القراءة علاقة بالشعر الجيد، والرديء.

هنالك شعر جيد، وشعر رديء، وهناك شعراء لا يجيدون القاء قصائدهم، لكنهم شعراء مبدعون.

الفرق باعتقادي مثل الذي يقف على حافة شلال حقيقي بصورته، وصوته، وبالعطور التي تنبعث من المكان، وبالرذاذ الذي يتساقط على وجهه وثيابه، وآخر ينظر الى صورة لنفس الشلال!.

* ما هو تقييمك للوضع الحالي في كردستان العراق؟

ـ ابدأ من الشرخ الموجود في جدار حريتنا، وهو شرخ عدم توحيد الادارتين، وعدم وجود برلمان موحد، وهذه حالة شاذة لم نستطع انهاءها رغم مرور سنوات على اتفاقية واشنطن، وهي باعتقادي اول صورة مؤلمة يجب ان ننتقدها بشدة لأن مستقبلنا يتوقف على التوحيد بين هذه القوى التي تتحكم في الاقليم. وأي تأخير سوف يدخلنا في متاهات جديدة، ويضر بمستقبل شعبنا.

لا شك بأن هناك خطوات باتجاه المصالحة الوطنية، ولكنها بطيئة جدا، فلجنة السلام بين الحزبين عقدت اكثر من ثمانين اجتماعا، ولم يتوصلا الى النتيجة النهائية، وهذا مؤلم.

ومن ناحية أخرى، وخلال السنوات الاربع الماضية اتسعت حركية الفن والادب في كردستان بصورة عامة سواء كانت في اربيل او السليمانية ودهوك والسؤال الآن هو كيف ندخل في مرحلة التغيير في العراق؟، لا شك ان الاتفاق السياسي بين الحزبين يأتي في المرتبة الاولى، ومن ثم التركيز المستمر على مشاركة الكرد في الحكم القادم بالنسبة المئوية المشروعة لهم.

ويجب ضم المدن الكردية كركوك، وخانقين، ومندلي وغيرها من التي تقع خارج الحدود المؤقتة الحالية لاقليم كردستان، كما نؤكد على التمسك بالتعددية الديمقراطية ضمن خارطة العراق.

* سيرة ذاتية

* عرف بيكس الابن كشاعر مجدد في الشعر الكردي منذ أوائل السبعينات من القرن الماضي. وشارك في المقاومة الوطنية الكردية لسنين طويلة، وعاش مرارة النفي داخل العراق وخارجه.

ترجم شعره الى العديد من اللغات العالمية الحية، وحاز على جوائز دولية عديدة. وعاد الى كردستان من منفاه بعد انتفاضة عام 1991، وشارك في اول انتخابات برلمانية كردية. فاز في الانتخابات ورشح من البرلمان الكردي الموحد وزيرا للثقافة.

استقال من منصبه الوزاري بعد مضي سنة وعدة أشهر احتجاجا على حجب الحرية، وعاد الى منفاه في صقيع استوكهولم. وفي عودة أخرى الى كردستان اسس مع مجموعة كتاب في مدينته (السليمانية) داراً للطباعة والنشر.