رضا الباهي يفتح صندوق الذاكرة

«صندوق عجب» رحلة في الحاضر والماضي لمن أحب القيرَوان والسينما

TT

كان لا بد أن يحقق المخرج رضا الباهي فيلمه الجديد «صندوق عجب». كل ما حققه الى الآن يقود اليه.

أفلام رضا الباهي من «العتبات الممنوعة» (1973) الى اليوم تتعامل والذاكرة. اذا لم تكن ذاكرة المخرج، وهي كذلك في أحيان كثيرة، فهي ذاكرة أبطاله. «شمس الضباع» المتوسط الطول الذي كان لافتا مهما لموهبة كانت تخطو خطوتها الأولى في عالم السينما، حمل ملامح من قصة حقيقية عاشتها تونس: شاب ينفتح، كما البلاد حينها، على السياحة من دون أن يكون، نفسيا اجتماعيا او ثقافيا، مؤهلا لذلك. النتيجة صدام مخيف اذ يغتصب احدى السائحات استدرجها الى مكان العبادة.

هذه العودة الى الماضي من خلال الواقعة حملت ايضا بعدا اجتماعيا ـ سياسيا أدانت فيه انفتاحا غير محضر بنهضة موازية للبيئة المكشوفة. في «شمس الضباع» أعاد الحديث عن الناحية ذاتها في فيلم أشمل تتبدى فيه الذاكرة على نحو ملحوظ، فكل ما نقله الباهي على الشاشة مستوحى من معايشته للبيئة الواقعية. حتى الحزن البادي على محيا ذلك الفيلم شبيه بهذا الذي يطالعنا فيلمه الجديد به اليوم.

وتستطيع أن تلحظ ذات المنهج المتوغل في الذاكرة في أفلامه الثلاثة اللاحقة «الملائكة» و«وشم على الذاكرة» (المأخوذ ايضا عن قصة واقعية) و«السنونو لا تموت في القدس». وفيها جميعا مواجهات بطل الفيلم (الصغير في «شمبانيا مرة») مع ماضيه. حتى في «السنونو لا تموت في القدس» الذي لا علاقة له بتونس او بالقيروان، حيث ولد المخرج الباهي قبل 55 سنة، يحرّك بطله رحلته في البحث عن أمه وذكرياته وعلاقته بماضيه فوق أرض تهتز تحت قدميه.

أفلام رضا الباهي كانت مقدّمة بلا ريب. والمخرج كان عبرها يحضّر للعمل الذي يتوقف فيه عن النهل من الأمس بفيلم ذاتي تماما يضعه في مواجهة نفسه وأمام مرحلة جديدة ستختلف مستقبلا عما كانت عليه بالأمس... او هكذا من المفترض أن تكون.

«صندوق عجب» في هذا الصدد ختم من مسك على مجمل ما حاكه الباهي في أعماله. علاقته بأبيه. تساؤلاته حول طاعة أمه. ملاحظاته لصبيان وبنات الحي. الحب الصغير الأول. والعلاقة الفاتنة الأولى بالسينما وكيف حدثت. من كان المسؤول عنها. في اي بيئة وفي أي جو. في «صندوق عجب» يلقي نظرة (تبدو كما لو كانت أخيرة) على القيروان التي ولد فيها ويعيد تزيينها وتصميمها (بفضل شقيقه توفيق الباهي) على نحو ما كانت عليه في الستينات. لكن الباهي ينتقل خطوة أخرى مفاجئة.

فيلمه ليس فقط عن مخرج يتذكر، بل عن مخرج ـ داخل الفيلم ـ يتذكر من ناحية ويعيش في ذات الوقت حاضرا صعبا. هذا المخرج (أسمه في الفيلم رؤوف ويؤديه عبد اللطيف قشيش الذي تعرّفنا عليه قبل أكثر من عشرة أعوام في فيلم عبد الكريم بهلول «مصاص دماء في باريس»).

الفيلم يبدأ بكابوس يصيغه الباهي (مع المصوّر يورغوس أرفانيتيس المصوّر المفضل لأفلام العملاق ثيو أنجيلوبولوس وبتوليف فعّال من فرانس دويز) على شكل لقطات سريعة من وجهة نظر رجل هارب. هناك منع حظر في المدينة. الجميع يحذره. يغلق الأبواب في وجهه. صوت طائرة. شوارع تذوب في العتمة والفراغ. أخيرا يصل الحالم الى بيته. تستقبله امرأته. يخبرها أنه مطارد يريد الاختباء. تشير الى صندوق كبير (تابوته؟) يدخل فيه. يدق البوليس الباب تفتح الزوجة وعلى الفور تشير الى أين يختبئ زوجها.

يصحو رؤوف من نومه. يحاول اخبار زوجته الحلم. لكنها لا تكترث. تريد أن تنام. ينظر اليها مليا ثم يغادر الى غرفة مكتبه حيث يواصل العمل على سيناريو فيلمه المقبل. لقد طلبت منه شركة انتاج فرنسية فيلما عن حياته وهو ما يكتبه الآن. الرحلة الأولى الى الماضي تقع هنا.

* الحياة الخاصة

* هي رحلة متقطعة تنتقل ما بين الأمس والحاضر. لكن قيمة اختيار الباهي لمشاهد من الكوابيس يدلف منها الى منطقة الحاضر هي أنه يبدأ من حيث انتهى اليه. في اختيارات أخرى، كأن يبدأ بمشهد من حلم صغير، او بمشهد له وهو يسبق غيره من أطفال الحي لمشاهدة فيلم لسامية جمال او ستيف ريفز، كان سينطلق من نقطة بعيدة ليصل الى نقطة قريبة من حاضره. ما فعله الباهي هو أنه ببراعة متناهية يؤسس لقصة يمكن اعتبارها منفصلة بطلها رؤوف المكلف بالعودة الى ماضيه، وبطلها هو الذي وصل في حياته الخاصة والعامة الى هذه النقطة وقرر العودة الى ماضيه ايضا. اذ يعود الى الأمس لا يبقى فيه دائما. الفيلم يسير على سكتي حديد متوازيتين وينتقل بينهما كلما اختار. نتابع قصتين متواصلتين ومنقطعتين ايضا. في صباه يرمي المخرج نظرة الى والده القاسي. أبوه (لطفي بوشناق) ليس راضيا عن ميول ابنه صوب السينما. يعتبرها حراما ويريد من ابنه أن ينمو رجلا مثله وليس مثل خاله منصور (هشام رستم في دور جديد عليه) لذا هو قاس عليه ربما الى حد يؤدي الى زيادة ابتعاد الابن فيما لا يرضي أبيه. لكن الباهي لا ينطلق لتصفية حساب مع والده. فجأة بالقرب من الفصول الأخيرة يلقي تحية كبيرة لأبيه اذ دفعت شهامته الوطنية وموقفه الديني الأصيل به الى الدعوة الى تمرّد مدني في القيروان عندما وصل فريق ايطالي لتصوير أحد الأفلام فيها. والده من الذين لم يرضوا أن يفترش الأجانب أرض بلدته بعاداتهم ويهملون التقاليد الاجتماعية من دون عناء. نتيجة ذلك شغب (لا نشاهده على الشاشة) أدّى الى سجن الأب. تذكرة وعي سياسي مبكر في حياة الباهي كما نرى.

حب السينما يأتي الصبي الذي يؤدي دور الباهي/ رؤوف صغيرا (التلقائي الجيد مهدي الربيعي) عن طريق خاله منصور الذي كان يجول البلدان والقرى يعرض فيها الأفلام التي بحوزته. الكبار كانوا يفضلون أفلام فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ وسامية جمال. الصغار كانوا مأخوذين بزورو، نصير الفقراء المقنع. لاحقا في الفيلم يهدي الخال صندوق عرض سينمائي أولي الى الصبي لكن الصبي يفقده عندما اضطرت العائلة للنزوح وبيع ممتلكات البيت.

كل ذلك بالتقاطع مع حالة رؤوف اليوم.

العلاقة بينه وبين زوجته الفرنسية تزداد سوءا. انها لم تعد تحبه. أفاقت على أنها في سجن كبير. تشعر بأن المحيط الذي تعيش به غريب عنها وهو المحيط الذي أحبته حين تزوّجت من رؤوف. يحاول هذا التواصل معه ويبدو ضعيفا في حواراته متخاذل في قدرة الاقناع. لكن زوجته صممت على عزلتها. وتذكر الزوج أنه حين تسلمت رسالة من عائلتها في باريس تخبرها أن والدها مريض لم يأذن لها بالسفر. بعد أيام مات الأب وحملت في ذاتها جرحا عميقا.

هذا الناقد كان يبحث عن حوار أمتن من ناحية رؤوف. عن سعي أكثر صعوبة من طرفه عوض دورانه في موقفه بكلمات ضعيفة غير مقنعة ومن دون نتيجة. لكن اذا كان رؤوف هو الباهي في الصيغة المعتمدة لرجل يبحث في ذاكرته وفي حبه للسينما، لم لا يكون رؤوف هو الباهي في حياته الخاصة؟ من يعرف المخرج يعلم أنه استمد من تلك الحياة الزوجية الحاضرة ما يعرضه على الشاشة. يتعرّى نفسيا ويهدم الجدار الذي كان يمكن أن يلجأ اليه ذودا عن نفسه.

في الحقيقة، يأتينا المشهد الأخير بلا جدران مطلقة تفصل بين كل هذا الواقع وبين الموت.رؤوف بعدما زار القيروان التي سيصوّر فيها ينطلق على طريق ريفي عائدا الى تونس. يتصل بالبيت ليخبر زوجته مقدار فرحه بما رآه وثقته بالفيلم الذي سيحقق. لكنها لا ترفع السمّاعة لأنها غير موجودة، بل يترك صوته على شريط التسجيل بينما الهواء يتلاعب بتلك الستائر البيضاء. لقد غادرته. فجأة تنقلب به السيارة ويموت. وهنا يلتقي بنفسه طفلا. رؤوف الطفل يأخذ الرجل من يده ويقوده الى ما يشبه المزار. يقفان عنده ولا يدخلانه. رؤوف الطفل يقود رؤوف الرجل الى البحر الممتد قبل أن يغيبا في أفق قريب. وهل تذكر الصندوق الذي يلجأ اليه رؤوف في مطلع الفيلم؟ تدرك الآن أنه يرمز فعلا الى التابوت. رؤوف يرقد فيه ولا يزال يحلم بحياته على الأرض.

* نقش على الذاكرة

* اذ يتحدث «صندوق عجب» عن رؤوف الذي هو رضا، يتبع كل تلك الأعمال التي نسجها المخرج حول ذكرياته. بل يمكن البحث عن وجه مشترك بين رؤوف في هذا الفيلم وبطل فيلم الباهي السابق «وشم على الذاكرة» ونّيس، الولد الذي سيصحو على وضع عاطفي غير مستقر في حياته. القصتان تختلفان كثيرا، لكن معطيات من النسيج الواحد يؤلفهما بما في ذلك النهاية المفتوحة التي يتوجه بها ونيس، في الفيلم السابق، الى صحراء ملتهبة رمز لموت غير مريح مؤجج بصراعاته العاطفية والنفسية، والنهاية المفتوحة التي يتوجه بها رؤوف (صغيرا وكبيرا معا) الى صحراء يليه بحر. الفارق هو أن الرمز المتاح هنا، في «صندوق عجب»، يفي بأن المخرج وجد استقراره. ألهمه ايمانه بأن الحياة لا تتوقف هنا وأن الطفل في الذات هو الذي سيقود الرجل في البدن، كما لو أن ساعة الحياة توقفت عند ذلك الحين (وفي «وشم على الذاكرة» معان عديدة في ذات الترميز من بينها المشهد الذي نرى فيه الأب غارقا في صنع ساعة كبيرة توقف زمنه عندها).

يمكن الكتابة طويلا عن اختيار المخرج من لقطاته ومشاهده ووقتها من النهار والليل والظلال. الباهي عموما ما يعمد لتوظيف الكاميرا تماما كما ينص قانونها الأول: القلم في يد المخرج لسرد الكتابة التي يريدها صوراً. لكن أسلوب العمل لديه دائما سهل وتلقائي ويختزن الكثير من التعابير. ربما لم يجد الباهي مدير تصوير ملازما له يؤمّن له النبض الفني الدائم، لكنه وجد في مدير التصوير اليوناني أرفانيتيس فنانا يتفاهم والمقصود في مثل هذه الحالات. يتواطأ معها بحثا عن العمق حتى ولو لم يكن المطلوب أكثر من نقل حالة أمامية بسيطة.

وانتقال الباهي ما بين الأمس واليوم المتعدد يتم بسلاسة. في بعض الأفلام تشعر بأن اللحظة التي ينتقل فيها الفيلم من زمن لآخر بمثابة جدار قائم. لكن انفعال المخرج مع هذا التجسيد الحي لعالمه يلغي اي جدار. كذلك يلغيه تماما حقيقة أن رؤوف رجل يعايش مرحلتي حياته الأولى في مواجهة مع زوجته والثانية في مواجهة مع ذاته على الورق الذي يجلس ليكتبه. رغم ذلك، كان يمكن للحظات التي ينتقل بها الفيلم من زمن لآخر أن تبقى فواصل غير مرغوبة لولا ادراك المخرج كيف يتعامل معها فيدلف من دون عوائق ويأخذ بألباب المشاهد من اللقطة الأولى حتى الأخيرة مشغولا بالمكان وبالناس وبالقراءة الخلفية لهما.

* رضا الباهي .... لمحة عنه:

* ولد المخرج في 7/8/1947 في القيروان. تخرج من الايديك الفرنسي وحقق أول أفلامه «العتبات الممنوعة» سنة .1973 مقل في أعماله نسبة للواقع الانتاجي العربي السائد، لكن ما حققه من أفلام روائية ووثائقية الى اليوم مميز بمستواه التقني وبصياغته السردية والسينمائية السليمة. عادة ما تتعامل أعماله مع شخصيات تعيش قلق الحياة بذكريات الأمس على خلفية من المشهد الاجتماعي القائم على العراقة وحب الأمس لكل ما فيه. أفلامه الى الآن مع تقويم بالنجوم لما شوهد منها بدءا بنجمة (الأضعف) الى خمسة (تحفة):

ـ «العتبات الممنوعة» (1973) ـ «شمس الضباع» (1978) ـ «صيد اللؤلؤ» ـ تسجيلي طويل (1981) ـ «المراكب» ـ تسجيلي طويل (1981) ـ «الملائكة» (1984) ـ «وشم على الذاكرة» (1986) ـ «السنونو لا تموت في القدس» (1994) ـ «صندوق عجب» (2002)