أمازونيات عربيات وبربريات ينافسن غرائب وعجائب مدن المخيلة

الغرناطي انفرد بخبر مدينة النحاس وياقوت أفاض في أحاديث الهند والصين والقزويني نسب للطرطوشي أسطورة الجزيرة النسائية

TT

لكل كائن احلام مؤجلة، ومدينة وامرأة في المخيلة، وان كان لا بد من تأنيث المتمني، فرجل ومدينة ومساحات لا تحد من الوهم الجميل الذي لولاه لاقحلنا كما حدث للربع الخالي الذي كان جنة تين واعناب وزيتون، وصار حين فقد وهمه بحرا من الرمل الانيق يذكرك بالتيه الذي لا بد منه قبل عبور الحقيقة او بعدها.

ولعله الوهم الجميل ذاته هو الذي جعل الرحالة والجغرافيين يطلقون على كتبهم صفة العجائب والغرائب واحيانا يضيفون عجائب الزمان الى غرائب البلدان ليكتمل القوس وتقفل انفراجاتها الدوائر، والارواح والزوايا.

مدن تضحك، واخرى تبكي، ولا تدري هذه ولا تلك ما يضحكها ولا ما يبكي جاراتها، وخلانها.

بداية اساطير المدن الضاحكة في التراث العربي جاءت من الاندلس وبالتحديد من ابي حامد الغرناطي استاذ القزويني وصاحب كتاب «تحفة الألباب» وهو يزعم على الحقيقة والتوهم ويكاد ينفرد بخبر عجيب عن وجود مدينة اسمها مدينة النحاس بنتها الجن لنبي الله سليمان بالقرب من بحر الظلمات «المحيط الاطلسي» وقد بلغ خبر هذه المدينة الخليفة الاموي عبد الملك بن مروان، فكتب الى واليه في المغرب ان يعاين المدينة النحاسية ويوافيه على وجه السرعة بما فيها من العجائب، وكان الوالي ـ آنذاك ـ موسى بن نصير الذي اوقف الفتح، وجمع عسكره، وسار بهم اربعين يوما وصدق او لا تصدق فانه وجد المدينة لكنها كانت ككل مدن المخيلة دون بوابة، فأمر بحفر السور دون جدوى ثم اخترع سلما لعله الاطول بين سلالم الفاتحين، وطلب من بعض رجاله ان يتسوروها، ففعلوا، فكان الواحد منهم يصل الى اعلى السور فيغرق في الضحك ثم يصفق ويهوي على الجانب الآخر دون ان يدركوا له اثرا، لكنهم كانوا يسمعون اصواتا تهلل له من داخل اسوار المدينة.

وتكررت حالة الضحك والتصفيق والقفز الى الهلاك حتى احتار موسى بن نصير، واوشك على الرجوع لكنه خاف غضب الخليفة، ولنترك الغرناطي يقص علينا باسلوبه حكاية اليوم الاخير من تواجد فاتح الاندلس عند اسوار مدينة الضحك النحاسية.

«... وتمادت الاصوات من داخل المدينة ثلاثة ايام ولياليها، ثم سكنت فقال موسى بن نصير أنذهب من ها هنا ولم نعلم بشيء، من علم هذه المدينة وبماذا اكتب واجاوب امير المؤمنين، وقال لرجاله من صعد اعطيته ديتين، فانتدب رجل من الشجعان وقال انا اصعد، فشدوا في وسطي حبلا قويا، وامسكوا طرفه معكم حتى اذا اردت ان القي نفسي الى المدينة فامنعوني، ففعلوا ذلك، وصعد الرجل، فلما اشرف على المدينة ضحك، والقى نفسه، فجروه بذلك الحبل، والرجل يجر من داخل المدينة حتى انقطع جسده الى نصفين، ووقع نصفه من محزمه مع فخذيه وساقيه وذهب النصف الآخر الى داخل المدينة، وكثر الصياح والضجيج، حينئذ آيس الامير موسى ان يعلم شيئا من خبر المدينة، وقال ربما يكون في المدينة جن يأخذون كل من طلع على سورها».

* مرح التيبت

* ومن مدن الجن الى مدن الانس يكاد الجغرافيون العرب يجمعون على «التيبت» من البلاد الضاحكة، ولو شاهدوا ما حل بها وما جرى للدالاي لاما لبكوا وابكوا وصنعوا ما يصنعه شعراء المقدمات الطللية حيث لا يحلو للشاعر الانشاد الا اذا بكى واستبكى لماذا يا عبد الله..؟ أعلى اثفية وبعر آرام تنوح..؟

وفي الدنيا مدن باسمة، ونساء ضاحكات، وانهار راقصة، وبحار يكاد موجها من البهجة المغسولة بالنشوة ينافس النوارس في التحليق للاعالي لتبلغ كل موجة قمة همالايا دون ان تتحرك من رملها وحصاها.

ويجمع على طبيعة التيبت المرحة كل من ابن خزذابة في المسالك والممالك فكل من دخلها حسب اعتقاده «يظل ضاحكا مسرورا الى ان يخرج منها» وكذلك المسعودي صاحب مروج الذهب الذي يبالغ قليلا على عادته في الحماسة فيؤكد «ان من يدخل تلك الاراضي لا يتعرض ابدا للاحزان» اما النص الاكمل والشبيه جزئيا بنص المسعودي، عن التيبت، فتجده عند ياقوت الذي يفيض ويبالغ في اخبار مدن الصين والهند في كتابه معجم البلدان الذي يقول فيه عن مرح التيبت:

«وفي بلاد التيبت خواص في هوائها، ومائها وسهلها وجبلها لا يزال الانسان بها ضاحكا مستبشرا لا تعرض له الاحزان والاخطار والهموم والغموم يتساوى في ذلك شيوخهم وكهولهم وشبانهم ولا تحصى عجائب ثمارها وزهرها ومروجها وانهارها، وهو بلد تقوى فيه طبيعة الدم على الحيوان الناطق وغيره، وفي اهله رقة طبع وبشاشة واريحية تبعث على كثرة استعمال الملاهي وانواع الرقص حتى ان الميت اذا مات لا يداخل اهله كثير من الحزن كما يلحق غيرهم ولهم تحنن على بعضهم البعض، والتبسم فيهم عام حتى انه ليظهر في وجوه بهائمهم..».

اذن البقرة الضاحكة لم تظهر في فرنسا ولا في الهند اولا انما في بلاد التيبت ومن هناك انحدرت الى سهول الهنود، وظلت تضحك الى ان نالت القداسة عندهم ومن ذا الذي لا يقدس الروح الصافية المرحة..!!؟

ترى هل المرح عادة في الطبيعة الجبلية يغذيه الهواء النقي، والسماء القريبة والغيوم التي تهبط على اكتاف الناس كما يهبط الحمام واليمام على الاكف في «ترافلغارسكوير..؟».

لو صدقنا ذلك، فيجب ان نسحب صفة المرح على اهل الاطلس الكبير الذي كان جزءا اساسيا من اسطورة هرقل، وعلى الجبال الجزائرية الشاهقة التي تبلغ اقصى ارتفاعها عند بجاية حيث تعيش القرود في احضان البشر، وقد زرت تلك البلاد فما رأيت بسمة ولا ضحكة ولا قهقهة، ولا عبرت بمن يهم بفتح شفتيه نصف فتحة تعبيرا عن الرضا حتى خيل الي ان تلك البلاد لم يضحك فيها أحد منذ ايام الطوفان، فقد كان من الممكن ان يهبط قارب نوح «ذا آرك» فوق تلك الجبال الشاهقة لكنه فضل عليها جبال «آرارات» على الحدود السورية ـ التركية، حيث هناك ايضا لا يضحك الناس الا بالمناسبات، ولماذا يضحكون؟ وعلى ماذا..؟ وكل ما حولهم يقول: غطيني يا صفية.

ولأن كل ابتسامة تقابلها دمعة في الميزان ـ بالاذن من جبران ـ ارتبط فرح نوح عليه السلام بعد انتهاء الطوفان بالعبودية، ولذلك حكاية يرويها ابن قتيبة في كتاب «المعارف» حيث يزعم نقلا عمن سبقه ان نوحا بعد ان رست سفينته غرس كرما وعصر من ثمره شرابا، فلما انتشى وحصل له ما يحصل لمتعاطي ابنة العنب تعرى ونام، فابصره على تلك الحال ابنه حام ابو كنعان وبدلا من ان يغطي عورة ابيه ذهب واطلع اخويه سام ويافث على الوضع. يقول ابن قتيبة في بقية الحكاية:

«فأخذ سام ويافث رداء فألقياه على عواتقهما، ومشيا على اعقابهما فواريا عورة ابيهما، وهما مدبران، فاستيقظ نوح من نشوته، وعلم ما فعل ابنه الاصغر فقال: ملعون ابو كنعان عبد عبيد يكون لأخويه، وقال: مبارك سام يكثر الله اولاد يافث، ويكون ابو كنعان عبدا لهما».

الموصل والمغرب

وفي رواية اخرى «يكون حام وذريته عبيدا لهم»، ومهما كانت الرواية فان الرقيق لم يقتصر على اولاد حام الاسود لا في المدن الضاحكة، ولا في المدن الباكية، فالعرب في اوج حضارتهم كانوا يفاخرون بالرقيق الرومي الابيض، وفي «عمليات الوطء» ما كانوا يفرقون بين اسود وابيض لكنهم ولأمر يصعب تفسيره خصوا السود بالخصي واوقفوهم على الابواب لحراسة النسوان، وكأن الابيض يظل فيه ما يغري حتى وان أخصيته.

ويرجع الحديث الى سياقه عن المدن وعجائبها، فأبو يحيى القزويني يحدثنا في كتاب «آثار البلاد واخبار العباد» عن مدن مليئة بالعجائب والمصائب ومنها مدينة هندية يفقد فيها الرجل فحولته الى حين فهي بلغة زكريا القزويني «اذا دخلها غريب لم يقدر على المجامعة اصلا ولو اقام بها ما اقام فإذا خرج منها زال عنه المانع».

ويحدثنا هذا المؤلف المكبوت المولع بالعجائب الكابتة عن مدينة اخرى او بالاحرى جزيرة مسكونة بالنساء وحدهن ولعلها الصدى البعيد لاسطورة الامازونيات لكن موقعها ليس في بلاد الامازون انما في بحر المغرب الامر الذي يبيح لنا ان نفترض انهن اما عربيات او بربريات وليبرئ ذمته من هكذا عجيبة مغربية ينسبها الى الطرطوشي الذي سمع منه عن جزيرة «اهلها نساء لا حكم للرجال عليهن، يركبن الخيول، ويباشرن الحرب بانفسهن، ولهن بأس شديد عند اللقاء، ولهن مماليك يختلف كل مملوك بالليل الى سيدته، ويكون معها طوال ليلته، ويقوم بالسحر، ويخرج مستترا عند انبلاج الفجر، فإذا وضعت احداهن ذكرا قتلته في الحال، وان وضعت انثى تركتها».

وحتى يزول من نفسك اي شك حول هؤلاء الامازونيات العربيات والبربريات اللواتي ينافسن اخبار مثيلاتهن بين عجائب وغرائب مدن المخيلة، يضيف القزويني لروايته تأكيد الراوي:

«قال الطرطوشي: مدينة النساء يقين لا شك فيها».

ومن جزيرة النساء بالمغرب الى «قرية الشبقات» قرب الموصل يواصل القزويني صاحب المخيلة المكبوتة القص لكنه ينسب الحدث هذه المرة لمتصوف اسمه عمر التسليمي ليخفف من وقع الاثارة. يقول الشيخ عمر: «وصلت الى هذه القرية ـ اسمها باشاي من اعمال الموصل ـ فلما كان وقت خروج نور ـ زهر ـ الغبيراء اهتاج بنسائها شهوة الوقاع لا يستحين من ذلك لغلبة الشهوة، ولا قدرة للرجال على قضاء اوطارهن، فعند ذلك اخرجن الى واد بقرب الضيعة، وهن بها كالسنانير عند هيجانها الى ان انقضت مدتهن ثم تراجعن الى بيوتهن وقد عاد اليهن التمييز».

وقد يكون او لا يكون لهذه المدن والقرى وجود، فبعضها من صنع المخيلة، وبعضها من نتاج التوهم، ومعظمها يوجد على غير الصورة التي تحسنها الرغبات الخبيئة التي تلون كل شيء على هواها بحيث لا يظل له بالاصل صلة بل يلتحق بمخيلة الصانع ليقيم هناك على حدود الوهم والحقيقة، ويشرئب بعنقه على الدوام الى درب المجهول الذي يأخذه كما اخذ هرقل الى حدائق «الهسبريد» بحثا عن تفاحات. «هسبريا» المحلاة باللآلئ والمصنوعة من الذهب الخالص، وهي حسب اساطير الاغريق اثمن الهدايا، واغلاها.. وهل هناك اغلى واجمل من جنية تهوانا ومدينة نفصلها على هوانا، ومخيلة مجنحة تجنبنا الخوض في مستنقعات هذا الواقع المر الضحل الذي لم يحصل على هذا الاسم المريب.. «واقع» الا حين سقط من عليائه ووقع محطما من سماوات الاسطورة فتشظى حزنا وألما وتفاهة بعد مغادرته لفضاء المخيلة الاسطورية؟!