تحت عنوان «حداثة ايجابية» كتب الناقد الفرنسي آلان جوفرا في معرض تقديم الفنان ضياء العزاوي لمشاهدي معرضه الاستعادي الذي خصصه معهد العالم العربي في باريس لاعماله عام 2001.
«فعل العزاوي كما فعل ماتيس في المغرب، ولكن بالعكس، بدون اي تنازل للذوق والموضة التجارية، وبدون اي مجاملة للفن الشعبي الشرقي المميز».
وللاطلاع على تجربة الفنان العزاوي، وطريقته في التفكير والعمل، ولمعرفة جوانب حركة الفنون البصرية عربيا وعالميا قصدنا مشغله في منطقة «وايت سيتي» شرق العاصمة البريطانية لندن، حيث يزاول عمله الفني منذ سنين طويلة، ويفتح نافذته الملونة على العالم.
سألته: اين هو ضياء العزاوي الآن، رؤية واسلوبا وتقنية؟
فأجاب: للاجابة عن سؤال اليوم عليّ ان اعود الى سنوات سابقة عندما وجدت بأني لم اعد اجد في اللوحة الحد النهائي لما كنت ارغب في التعبير عنه، لهذا لجأت الى استخدام المواد المختلفة في معالجة سطحها، فانجزت لوحات تشاهد من كل الجوانب.
ادى هذا الى تداخل تقنيات مختلفة والى ان تكون للوحة بعد ثالث مضاف، وفي وقت سابق لهذا استخدمت الخشب لتحقيق سطوح مختلفة الابعاد، كانت النتيجة اعطاء اللوحة ابعادا خارج المنطق الهندسي المتعارف عليه.
* ألا تعتقد بأنك بهذا دخلت منطقة النحت؟
ـ شخصيا لا احبذ منطق التحديد، اي حصر العمل الفني بمواصفات الرسم او النحت. اجد نفسي اقرب الى تقنيات الرسام منه الى النحات.
ولكن النحت يهتم بالشكل وعلاقته بالفراغ، وفي احيان كثيرة لا يدخل اللون كطرف اساسي فيه.
* وماذا عن الكتب التشكيلية ذات النسخة الواحدة التي حققت عددا منها؟
ـ اطلقت على هذه الكتب اسم «دفاتر الفنان» واستخدمت في تنفيذ هذه الدفاتر مجموعة رسوم لتحقيق كتاب بنسخة واحدة نهائية، وكان منها «شاهد من هذا العصر»، وهي عن المقاومة الفلسطينية في الاردن.
وعمل آخر غير مطبوع، وغير معروض ايضا موضوعه ملحمة الحسين ويعود لمرحلة الستينات.
وانطلاقا من متابعتي لما هو موجود في العالم اصبحت عندي رغبة ملحة لعمل دفاتر تعتمد الشعر، وذلك بخلق فسحة لونية تتكون من قراءتي للنص، وهو ما يؤدي الى مشاهدة النص وقراءته.
غير ان هذا النوع من العمل قد لا يكون مستساغا من قبل قارئ مولع بالقراءة، ولكنه لا يمتلك الثقافة البصرية التي تغني قراءته.
ولا شك بأن التجربة الفرنسية في هذا المجال هي من اهم التجارب الخلاقة في هذا الميدان. ومثال على ذلك التعاون الذي حصل بين بيكاسو وابولينير، وحاليا اقوم بانتاج اعمال تكتفي بذاتها، وتكون لها قيمتها الابداعية الذاتية، والقيمة هنا لخيال الفنان وتقنيته، كما ان ثقافته تدخل كطرف اساس لتوسيع دائرة الخيال.
وليس لدي شك بأن ادوات الرسام وضرورات الرسم قادرة على انتاج اعمال تذهب بعيدا عن النص الشعري مهما كانت قوة ذلك النص. وبالنتيجة فإن الدفاتر الشعرية نقلت التجربة الى مسافة ابعد، اذ اصبحت اقرب الى منطق المعلقة بمعناها الوظيفي، فالبصر هنا يتدخل لانتاج نص شعري تكون له قدرة جذب انتباه المشاهد قبل قراءته للنص.
* وماذا عن تجارب الفنانين العرب الآخرين في هذا المجال؟
ـ اجد في شيوع عملية رسم القصيدة على الساحة العربية سواء على صعيد انتاج اللوحة الواحدة او المطبوعة اقترابا لمنطق المباهاة، باستثناء اعمال محدودة لبعض الفنانين.
وارى ان العملية اصبحت وكأنها تلتحق بالشاعر وباسمه اكثر من اهتمامها بخلق تجربة مميزة للفنان نفسه، وهذا يتشابه مع ما حصل منذ السبعينات والثمانينات مع ما سمي بالحروفية العربية، فالحروفية ظاهرة فتحت الباب امام قطاع كبير من الرسامين والخطاطين التقليديين لانتاج اعمال ادرجت ضمن الحروفية في ظل غياب النقد الجاد والجهل لمفهوم اللوحة. فالكثير من اللوحات ضمن هذا المفهوم لم تكن سوى لوحات مرسومة بالمواصفات الاوروبية البحتة مع اضافة حروف عربية. هذه السهولة والتبسيط اديا الى انتاج اعمال لا تشكل رافدا يمكن التطوير عليه ضمن تجربة الفن العربي.
* ما دمنا دخلنا في الجدل حول الحروفية، هل تعتقد بأنها محاولة لخلق هوية عربية في الفن التشكيلي؟
ـ للجواب على هذا السؤال اتساءل: ماذا لو استخدم فنان انجليزي حروفا عربية في لوحاته، هل سنسمي لوحاته هذه عربية؟!
هذا ينطبق ايضا على فنانين من آسيا، ومناطق اخرى من العالم. الادعاء العروبي للوحة الحروفية جاء نتيجة افتراض خاطئ تكون عندنا منذ فترة، وخلاصته ان موروث الفن الاسلامي، والحضارات الاخرى التي وجدت في المنطقة العربية ما هي الا تراث للعرب فقط، وليس تراثا انسانيا مباحا استخدامه للآخرين كجزء من محاولة التميز الاسلوبي للفنان ذاته. ولنا في استخدام بيكاسو للاقنعة الافريقية، وماتيس للارابيسك، وتابيس للخط الصيني امثلة حية، والقائمة تطول اذا لم ننظر الى ما نمتلك من موروث فني وثقافي على انه تراث حضاري للانسانية جمعاء ستكون نتاجنا مشاريع مغلقة. التراث كما هو وسيلة لتحرير الفرد ذهنيا وثقافيا للدخول في عملية التغيير الجارية حاليا.
* بوصفك فنانا عربيا يعيش في الغرب، ويعرض فيه، ولك في الوقت نفسه حضور واضح في البلدان العربية، وجسور قائمة مع فنانيها، ما هي اتجاهات الفن البصري العربي والعالمي؟
ـ على صعيد الفن العربي اصبحت التجارب اكثر فردية من السابق، فهناك اساليب فردية متميزة ابتداء من المغرب وانتهاء بعمان، وعلى الرغم من هذا التميز، فاننا لا نجد لدى الفنانين نزوعا للعمل الجماعي رغم وجود العديد من المشاريع التي تجمعهم كبينالي القاهرة والشارقة.
لا شك ان هناك العديد من الفنانين العرب المتميزين، ولكني ارى ان التميز لا يكون بانتاج اللوحة فقط، فهي لا تشكل الا عاملا واحدا من مجموعة عوامل تؤدي الى حضورها على المسرح العالمي.
فالحضور على هذا الصعيد يتطلب وجود مؤسسات فنية قادرة على دعم الفنان وتطوير تجربته، وهذا ما نراه واضحا في الغرب. فعندما تشاهد مجموعة اعمال لفنانين اوروبيين لا يمكن الا ان تشعر بغنى المؤسسة التي تقف وراءهم، فمهما كان ابداع الفنان فإنه لا يتمكن من انتاج اعمال اساسية تدفعه لوحدها ليكون له حضور وشخصية متميزة على الصعيد العالمي.
الفنان الانجليزي يتلقى الدعم لتنفيذ اعماله في الداخل والخارج من مؤسسة «بريتش آرت كاونسل» اما في المنطقة العربية فان الفنان يلحق بوزارات الاعلام فيها. ولهذه الوزارة في سائر البلدان العربية ضوابطها السياسية في استخدام الفنان.
الفن يحتاج الى المغامرة، وشعار المؤسسة الرسمية «السياسة فن الممكن»، بينما الابداع الحقيقي هو غير الممكن او المستحيل، السياسة فن القبول، في حين ان العمل الابداعي فن الرفض وقلب الطاولة.
* ومن هو الفنان العربي الذي ترى فيه مواصفات العالمية؟
ـ لدي تقدير لفنانين مثل القاسمي وبلكاهية من المغرب وعمر خليل من السودان وعادل السيوي من مصر.
* وماذا عن الفنان مروان قصاب باشي؟
ـ مروان جزء من التجربة الالمانية بكل مفاهيمها.
* من هو الفنان العالمي الذي تتوقف عند تجربته؟
ـ الاسباني تابيس، ومواطنه كلافيه الذي يجسد بفنه غنى لونيا هائلا، وكذلك الاميركي فرانك ستيلا الذي يتمتع بطاقة متجددة على اغناء تجربته، وهو منفتح انسانيا، ورسم الكثير من الموضوعات ذات العلاقة بالشعوب الاخرى كسمرقند وطيسفون وبوابة الكوفة ولم يحصر اهتمامه لدى تنفيذه لهذه الاعمال بالمعنى الفولكلوري لهذه المناطق.
* كيف تقيم وجودك في لندن؟
ـ ارى أني محظوظ بالقياس الى الكثير من الفنانين العراقيين، وتوفرت لي ظروف العيش في لندن خارج منطق الوظيفة واذا كان هناك شيء اندم عليه فهو تركي لبلدي العراق متأخرا.
منطقتنا ليست على علاقة صحيحة بالعالم، بمعنى التواصل مع الفعاليات الفنية والثقافية، فلا يوجد متحف عربي واحد تعاقد مع متاحف عالمية لنقل معارضه اليها، وكأننا لسنا جزءا من هذا العالم.
جرت العادة في العالم المتحضر على ان يكون المتحف الموجود في لندن على سبيل المثال جزءا من متحف في اميركا، مما يؤدي الى اتساع رؤية المشاهدة.
* تثير جائزة «تيرنر» التي تمنح سنويا في بريطانيا لافضل الاعمال البصرية الكثير من اللغط والاعتراض، ما رأيك في طريقة الاختيار التي تعتمد لمنح الجائزة؟
ـ الجائزة عمليا محاولة لصناعة مجموعة اسماء من قبل اصحاب صالات العرض والمتاحف، ويعكس الاختيار انحيازا لتجربة معينة، وهي تستهدف تشجيع التجارب التي لا تعتمد مفهوم اللوحة بمعناها التقليدي، وانما على تداخل التقنيات في انتاج عمل فني معين ولكني لا اجد في تجارب كثيرة من تلك التي تنتمي الى ما يسمى بالحداثة، وما بعد الحداثة تحريضا على انتاج اعمال ابداعية. فما انتج كان اقرب الى مبدأ الموضة منه الى بناء التاريخ.
ولو عدنا الى التجارب البناءة فسنجد ان التجربة التكعيبية على سبيل المثال كانت جزءا من التاريخ الاوروبي، وعندما جاءت التعبيرية التجريدية بعدها اخذت حيزا تطويريا عليها لان الرسم بالاساس ليس عملية اختراع بمنطق الكيمياء وانما هو بالاساس تراكم معرفي وانجازات ثقافية معينة.
جائزة «تيرنر» كانت في بداياتها قريبة للمنطق عندما منحوها لفنانين لهم اسهاماتهم الابداعية الواضحة في الفن البريطاني، اما الآن فانها تذهب الى تجارب نمطية لا جديد ابداعيا فيها.
* كيف يمكن لنا ان نحصل على جمهور نوعي يتمتع بذائقة بصرية حادة وفكر متقدم؟
ـ انظر بالتقدير للعملية التربوية في هذه البلاد والمقياس ابنتي التي تواصل دراستها الثانوية. لقد خلقوا لديها تقليد القراءة، وكانت تزور المتاحف مع زملائها في حصة الرسم، وتتلقى دروسا مبسطة عن الفن الحديث. رأيت ان مدرس المادة يطلب منها اختيار اعمال فنان معين ويطلب منها نقل لوحاته. المنهج الدراسي يختلف كليا عما كنا ندرسه، ولا يزال طلبتنا في البلدان العربية يدرسونه، وبناء المجتمع كما هو معلوم يعتمد على نوع المنهج المدرسي، وارى ان هناك عوائق هائلة في عملية تطوير الفرد هناك.
خذ كل التجربة العربية في الرسم، واعطني عددا من الكتب الفنية التي صدرت عن المؤسسات الخاصة. انها تعد على اصابع اليد الواحدة لان انتاج هذا النوع من الكتب مكلف وفي الحساب التجاري لا يمكن بيعها لان ثمنها سيتجاوز امكانية الفرد المادية لشرائها! وقبل ان يصحبني الفنان الى محطة الانفاق القريبة من مرسمه عرج على احدى غرف مشغله وخرج وبيده جهاز كومبيوتر نقال (لاب توب)، فسألته ما اذا كان يستعين به في تنفيذ اعماله الفنية، فقال: هذا الجهاز يفتح ابوابا مدهشة للفنان لكي يبدع في اخراج افكاره الى النور. انه دفتر الرسم السحري الذي ينتقل معي الى كل مكان ليجسد افكاري ويحولها الى صور بدرجة اتقان هائلة.