العتيبي : زياد منى يستهين بمعلومات التاريخ الموثقة ويبحث في الأسطورة ليستخرج منها التاريخ الحقيقي

د. محمد بن سلطان العتيبي*

TT

لقد استمتعت بما ورد في جريدتكم الرصينة في العدد 8832 ليوم الأحد الموافق 2/2/ 2003 من حوار مع الدكتور زياد منى، أجراه سعود السرحان وكان تحت عنوان «جغرافية التوراة أو استخراج التاريخ من داخل الأسطورة»، وتناول فيه عددا من القضايا التاريخية التي أرى أنها تستحق التوقف عندها طويلاً وأول هذه الوقفات كانت عن إجابته على السؤال عن تسمية كتابه «مقدمة في تاريخ فلسطين القديم». وكانت إجابة الدكتور تفيد بقناعته بأن تاريخ فلسطين منذ أقدم العصور إلى الفتح العربي الإسلامي لم يكتب حتى الآن، ولا أدري كيف نصنف أبحاث ومؤلفات الكثير من علماء الآثار والتاريخ عن أجزاء من تاريخ فلسطين منها ـ على سبيل المثال لا الحصر ـ أبحاث الأستاذ الدكتور زيدان كفافي عن العصور الحجرية، وكتاب الدكتور حسن ظاظا «القدس مدينة الله أم مدينة داود»، وكتاب جاك كوفان «القرى الأولى في بلاد الشام من الالف التاسع حتى الالف السابع ق.م»، والذي تناول فيه أريحا وموقع أبو سالم في النقب الأوسط وتل الفرح والبيضاء في فلسطين وغيرها من المواقع العائدة للعصر الحجري الحديث في سورية والتي تعود لهذا الزمن المبكر في تاريخ بداية القرى في العالم القديم. وأي تحزب يراه الدكتور زياد في الأبحاث المتصلة بالالف التاسع والثامن والسابع ومرحلة ما قبل الكتابة؟! أما قوله بأن ما كتب عن تاريخ فلسطين هو تاريخ طوائف؟ فهل تاريخ فلسطين في العصور الحجرية وما قبل الديانات السماوية الثلاث تاريخ طوائف؟

أما حديث الدكتور زياد عن قدرته على كتابة مجلدات في التاريخ السياسي القديم لفلسطين فهو ولا شك استعراض في غير محله ولقد ذكر في هذه النقطة أنه يستطيع أن يكتب مجلدات مستنداً في ذلك على المراجع فالحمد لله انه اقر بأن هناك مراجع يمكن الرجوع إليها في تاريخ فلسطين القديم.

وأشار الدكتور الفاضل إلى اتباعه المدرسة الألمانية التي تؤثر الاختصار في رسائل الدكتوراه، ولكن ألا يعتقد الدكتور زياد أن تاريخ فلسطين يكفي لأن يكون مادة لرسائل دكتوراه وليست رسالة واحدة.

ولعل من الغريب أن يذكر الدكتور زياد نجاحه في استخراج التاريخ من الأسطورة وما أعجب، ذلك فهو يشكك في معلومات التاريخ الموثقة التي يكون أغلبها حقائق ويضرب بها عرض الحائط، ثم يبحث في الأسطورة ليستخرج منها التاريخ الحقيقي.

أما ما تناوله الدكتور زياد في حديثه عن كمال الصليبي وجغرافية التوراة ومباركته وتأييده له فأرى أن الصواب قد جانبهما في هذا الموضوع لعدة أسباب منها على سبيل المثال:

1 ـ إن كمال الصليبي اعتمد كلياً على المقاربات اللغوية، وهذه حجة ليست كافية حتى لو تطابقت الأسماء، فهناك الكثير من الأسماء المتطابقة في أنحاء مختلفة من الشرق الأدنى القديم والتكرار شيء معروف وله أسباب بسيطة مباشرة، لا أود الخوض فيها، ولكن على سبيل المثال هناك أماكن كثيرة في جزيرة العرب لها نفس الاسم تماماً ومتعاصرة مثل ظهران الجنوب والظهران وتربة في منطقة الطائف وتربة شمال حائل والجوف في شمال المملكة العربية السعودية والجوف في اليمن وباحة ربيعه والباحة التي سميت بها المنطقة المعروفة في المملكة وظفار حضرموت وظفار عمان وغيرها من الأمثلة الكثير، ولكن الصليبي يعتمد على التشابه غير الدقيق في بعض الأسماء ولا مجال هنا لذكر كثير من الأسماء التي يلوي الصليبي حروفها كي تتوافق مع ما يراه مقارباً لها في التوراة.

2 ـ إن نظرية كمال صليبي في أن عسير هي موطن بني إسرائيل الأوائل وأن التوراة خرجت منها وأن الديانة اليهودية نشأت فيها قول يبتر أعضاء الجسد التاريخي القديم ويشوهه تشويها كاملاً فكيف نفسر الأحداث التاريخية الجسام التي تعرض لها اليهود في ذلك العصر مثل علاقتهم بمصر الفرعونية وعلاقتهم بآشور والسبي البابلي، فهل كان مثلاً السبي البابلي لليهود في عسير؟

ولكن مما لا شك فيه أن السبي البابلي حدث للشعب اليهودي الذي كان في مكانه في فلسطين قبل هذا السبي بمئات السنين، وإذ سلمنا بأن الخلط حصل في التوراة بين فلسطين وجنوب الجزيرة العربية. فهل كانت النصوص المصرية الفرعونية والنصوص الآشورية لا تميز أيضاً بين فلسطين وجنوب جزيرة العرب؟

3 ـ يأتي كمال الصليبي في نهاية القرن العشرين ليستند على أسماء أماكن بعضها حديث وأسماء أفخاذ قبائل عربية بعضها لا يعود إلى أكثر من قرنين من الزمان ليلصقها بأسماء توراتية تسبقها في القدم بأكثر من ثلاثة آلاف عام.

4 ـ يفترض كمال الصليبي بأن عسير هي موطن بني إسرائيل والتوراة والديانة اليهودية التي يتفق على انها كانت في القرن الثاني عشر قبل الميلاد أيام موسى عليه السلام بل ويرى ان منطقتهم «جنوب الجزيرة العربية» كانت مزدهرة في ذلك الزمن، إلا أننا نقف حيارى أمام هذا الازدهار الذي لم يعثر على أي من آثاره في جنوب الجزيرة العربية أو يرد أي من النصوص العربية القديمة «السبئية، الحضرمية، القتبانية، المعينية، الأوسانية» والتي تنوف على العشرة آلاف نص يتحدث لا من قريب ولا من بعيد عن بني إسرائيل ولا عن التوراة ولا اليهود ولا اليهودية ولا موسى عليه السلام ولا أنبياء بني إسرائيل ولا دولهم ولا تاريخهم، وان قال الصليبي وزياد منى أن زمن هذه النصوص العربية الجنوبية متأخر عن موسى، فلا شك انهما لا يستطيعان أن ينكرا بإنها أقدم من القرن العشرين بحوالي ألفي عام وانها أقرب إلى حفظ أسماء الأماكن والشعوب لقربها الزمني منها، والنصوص السبئية منها على وجه الخصوص التي تحدث بعضها عن غزوات شنها ملوك سبأ على أنحاء مختلفة من الجزيرة.

5 ـ أن نظرية كمال صليبي المذكورة تتعارض كلياً مع ما ورد في القرآن الكريم بربط موسى عليه السلام بفرعون مصر «الذي لم يحدد حتى اليوم من هو بشكل قاطع»، وقصة العبور للبحر أو اليم (والذي هو بلا شك مفهوم بعربية القرآن ولا يعني السراة كما يقول صليبي) ولا ما ورد في القرآن عن سيناء ولا مصر، وكذلك تعارض هذه النظرية مجمل الأحاديث الواردة في موسى عليه السلام والتي لا تفيد بأنه كان في جنوب جزيرة العرب.

6 ـ لم يعثر على أي أثر توراتي واحد في عسير أو جيزان أو اليمن وإن اتفقنا مع الدكتور زياد بأن الحفريات الآثرية لم تكشف الكثير من مناطق الجزيرة العربية سواء في الجنوب أو غيره، وبلقيس التي أفرد لها أحد كتبه معتمداً في دراسته لها على الأساطير ليس لها أي وجود لا جنوباً ولا شمالاً، ذلك بخلاف غيرها من الملكات العربيات فقد ذكرن في شمال الجزيرة العربية في بعض النصوص العربية القديمة وفي بعض النصوص الآشورية التي تحدثت عن غزوات لبعض ملوك بلاد ما بين النهرين على مناطق معروفة في شمال غربي الجزيرة العربية.

وخلاصة القول ان نظرية الدكتور كمال الصليبي وآراء الدكتور زياد منى لا تعتمد المنهجية العلمية المعروفة وإنما تستند على صروح من الخيال والهوى وتوجيه النصوص بما يحقق توجهاتهم التي لا تقوى على النقد العلمي الجاد.

* أستاذ آثار وتاريخ الجزيرة العربية القديم ـ جامعة الملك سعود moh_sultotaibi @hotmail.com