د. العبيدي أستاذ الفقه المقارن: رؤية علم الفلك والأقمار الصناعية للهلال تغني عن الرؤية بالعين المجردة

TT

يحتل الدكتور عبد الحميد العبيدي مكانة خاصة في نفوس مشاهدي التلفزيون والـــــقنوات الفـــــــضائية، ذلك كونه لا يطرح نفــسه كعالم دين، أو كمجتهد، بل كاستاذ في الفقه المقارن، يقدم لكل سؤال أجوبته، التي تعتمد على القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وما اجتهد به العلماء على مختلف مدارسهم أو مذاهبهم، ويخلص إلى (هذا ما اتفقت عليه الأغلبية).

وفي ضيافة «الشرق الأوسط»، كان لا بد أن يتضمن الحديث أو الحوار، إضافة إلى الشؤون الدينية، وبضمنها، أهم القضايا التي تشغل الأمة في الوقت الراهن، وهي قضية الانتفاضة الفلسطينية، و(الجهاد).

* نحن الآن في شهر رمضان المبارك، هل من كلمة توجهونها إلى العرب والمسلمين، وإلى أبناء الانتفاضة في فلسطين المحتلة؟

ـ قبل كل شيء، لا بد من القول إن اللّه سبحانه وتعالى فضل بعض الأشهر على بعض، وفضل بعض الأيام على بعض، وفضل بعض الساعات على بعض.. كما فضل كثيراً من الخلق على بعضهم. وأفضل الناس هم الأنبياء، ثم فضل سبحانه وتعالى الصديقين والشهداء والصالحين على سائر خلقه.

وشهر رمضان، من الأشهر التي اختارها اللّه سبحانه وتعالى لعبادته، بعبادة خاصة، هي عبادة الصوم والإمساك عن المفطرات الثلاثة: الأكل والشرب والجماع، من لدن طلوع الفجر إلى غروب الشمس، بنيّة الصيام، وهو شهر يعوّد الناس على الصبر، والإنسان في هذه الدنيا لا بد أن يكون صابراً، وإن لم يكن صابراً فإنه سيخرج من دينه، لأن الصبر إيمان، وإذا خرج من الصبر كان كافراً، حيث أنه يجحد نعمة اللّه سبحانه وتعالى، وينكر كثيراً من الأمور التي ثبتت في هذا الدين بالضرورة. شهر رمضان، شهر يستجيب اللّه فيه للدعوات، لذا ندعو الأمة الإسلامية أن تتوجه إلى ربها في هذا الشهر المبارك، مبتهلة إليه أن يحقق لها أهدافها التي شرعها الله سبحانه وتعالى، وعلى رأس هذه الأهداف، والقريبة اليوم، تحرير بلاد فلسطين من الزمرة الخبيثة التي كانت قد عادت اللّه ورسوله والأنبياء. وقد عصوا موسى عليه السلام، وطعنوا في عيسى، وآذوا محمدا صلّى اللّه عليه وسلم. نسأل اللّه في هذا الشهر أن يعيد تلك البلاد المقدسة، التي جعلها قبلة للناس منذ قديم الزمان.

* هل الصيام جزء من الجهاد؟

ـ الصيام، نوع من أنواع الجهاد. فهو يقوي الناحية النفسية، والناحية المعنوية، والناحية الإيمانية عند الإنسان. فإذا كان الإنسان صائماً عابداً نقياً للّه، فإنه يرفع راية الجهاد، بكل أنواعه، ومن ذلك الصوم، فهو يقوي النفس البشرية على الصوم.

* ولكن الأمة منقسمة ومجزأة كما تعلمون، فمن الذي يقرر الجهاد؟ وما هي الظروف الموضوعية في المقياس الدولي ـ الإسلامي الراهن للجهاد؟ وفي أي شكل يكون؟

ـ الحقيقة، الجهاد يعلنه رؤساء دول المسلمين، لذلك فإن كل ولي أمر تقع منزلته ومكانته على رأس دولة من دول الإسلام، هو الذي يرفع الجهاد، وبالطريقة التي يستطيع رفع الجهاد فيها. فمثلا، عندنا بعض الدول العربية وعلى حدود دولة فلسطين المحتلة، هذه الدول في الواجهة، ويجب أن يعلن قادتها الجهاد.. يجب أن يبذلوا كل طاقاتهم لاستثمار كل القوى في العالم الإسلامي.

* الصيام مجاهدة، لكن هناك اختلاف في الآراء حول صيام المسلم في الدول غير الإسلامية من حيث التوقيتات، هل الصيام حسب الموقع الجغرافي أم حسب توقيتات البلاد الإسلامية؟

ـ هناك دول لا تغيب عنها الشمس كثيراً، مثل شمال روسيا البيضاء، ومنطقة القطب الشمالي، وشمال غرينلاند، وشمال سيبيريا. هؤلاء تطلع عليهم الشمس ستة أشهر، وتغيب عنهم ستة أشهر أخرى. ومن المعلوم عند أهل الجغرافيا أن هناك نهاراً أقصر من نهار، وليلاً أقصر من ليل. في مثل هذه الحالة، ذات الليل الدائم والنهار الدائم، يكون الصوم بناء على أقرب دولة تطلع فيها الشمس وتغيب. أما في الدول التي تقع شمال خط الاستواء، وجنوب خط الاستواء، فيكون الصيام من طلوع الفجر إلى غياب الشمس.

* لماذا لم يوجد لحد الآن توقيت إسلامي موحد، لا سيما في ما يتعلق ببداية الشهر القمري، ووفق الأسس العلمية؟ وهل تغني رؤية الأقمار الصناعية للهلال عن رؤية العين المجردة؟

ـ نعم، تغني. لقد اختارت الشريعة الإسلامية الأشهر القمرية ولم يتم اختيارها للأشهر الشمسية. وفي ذلك سرّ وبعد نظر، لا يدركه كثير من الناس. يعني لو كان الصيام في الشهر الميلادي، من 1/1 إلى 1/31، لأدى ذلك إلى الآتي: في شمال الكرة الأرضية سيصوم المسلمون دائماً في الشتاء، في أبرد الأيام وأقصرها، بينما يصوم المسلمون في هذه الفترة ممن يسكنون جنوب خط الاستواء كأستراليا وأميركا الجنوبية وجنوب افريقيا، في أشد الأيام حرارة عندهم.

اختارت الشريعة الإسلامية التقويم القمري، لأنه في كل ثلاثين سنة، يعود رمضان في الوقت الذي كان قد بدأ فيه. فمرة نصوم في الصيف، ومرة في الشتاء، ومرة في الربيع، ومرة في الخريف، وهكذا.. وهذا يعني أن دين الإسلام هو دين العالمين ودين العدالة والمساواة.

أما قوله سبحانه وتعالى: «فمن شهد منكم الشهر فليصمه»، فإن سبب الصيام هو رؤية هلال رمضان. وبالتالي، يمكن رؤيته بالعين المجردة، ويمكن رؤيته بالحساب. يقول النبي صلى اللّه عليه وسلم: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غمّ عليكم فاقدروا له» في بعض الروايات، وفي بعضها «فاكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً». ومعنى «اقدروا له» أي بالحساب الذي يمكن أن يتقنه من يختص اليوم بعلم الفلك. وعندنا من علماء الفلك من يستطيع التعرف على هلال رمضان من وقت مبكر، لا بل عندنا بعض المصادر الإسلامية تحدد هلال رمضان لمدة خمسة آلاف سنة مقبلة. إنه حساب فلكي، وهو مضبوط جدا، يمكن الاعتماد عليه. ثم نحن الآن في عالم تطور تطوراً هائلاً، وخاصة في مجال التقنيات الحديثة. ويمكن رؤية الهلال بواسطة الأقمار الصناعية. بل نحدد بهذه الأقمار متى يولد الهلال، وفوق أي بلد، وفي أية ساعة ودقيقة وثانية. ان مثل هذه الأجهزة، وهي منضبطة جداً، لم تكن موجودة قبل هذا القرن، لكنها الآن موجودة، ويمكن أن يعتمد عليها علماء المسلمين في تحديد بداية رمضان ونهايته بشكل دقيق. لكن، هل كل بقاع الأرض وهل كل المسلمين في كل بقاع الأرض متطورون، بحيث يستطيعون رؤية الأهلة بالأقمار الصناعية؟ الحقيقة لا، لذلك لا يكلف اللّه نفساً إلاّ وسعها.

* نحن في عصر متطور، لكننا سمعنا تفسيرات عدة لقوله تعالى: «ومن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدّة من أيام أخر». هنا يحدد بعضهم السفر بالفراسخ، أو بالساعات، لكن يمكن أن يقطع المرء آلاف الفراسخ خلال ساعات قليلة وبراحة تامة بالطائرة مثلا، فمتى يصح الإفطار أو الصيام في هذه الحالة؟

ـ كلمة سفر هنا قد جاءت «نكرة»، والنكرة تقتضي العموم وليس الخصوص، ومعنى ذلك أن أية مسافة يمكن أن يطلق عليها سفر يجوز للمسلم فيها أن يصوم. وقد قال علماؤنا إن الإنسان إذا كان مسافراً أو كان مريضاً ولا يتضرر بصومه فإنه يجوز له أن يصوم ويجوز له أن يفطر. ومن علمائنا من قال يجب أن يفطر، لأن الله سبحانه وتعالى قال: «ومن كان منكم مريضاً أو على سفر فعدّة من أيام أخر»، إذن واجبة العدة من أيام أخر، وليس الصيام في السفر، أو مع المرض، وعليه القضاء. لكن أغلب فقهائنا قالوا «يجوز له وهو مسافر، إن كانت وسائل السفر مريحة أو غير مريحة، أن يصوم أو أن يفطر»، لكن الصيام أفضل، لقوله سبحانه وتعالى في آخر الآية: «وإن تصوموا خير لكم». ولأن الصيام في رمضان فيه أجر بسبعين، وإذا قضى الصيام وراء رمضان، أو خارج رمضان، فإن قضاءه سيكون بأجر واحد فقط. وليس من المقبول عقلا أن يترك الإنسان أجر السبعين ويأخذ بأجر الواحد. إذن جاز له أن يصوم وجاز له أن يفطر، حتى وإن كانت وسائل النقل مريحة، لكن مع ذلك فإن الصيام أفضل على قول أكثر علماء الأمة.

* نعود إلى المسلم في البلاد الأجنبية، كيف يؤدي الصلاة بأوقاتها إذا اختلفت التوقيتات، كأن يكون النهار قصيراً والليل طويلاً أو العكس؟

ـ الأيام التي يكون فيها النهار قصيرا تزدحم فيها الصلوات، صلاة الصبح تبدأ من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وصلاة الظهر من زوال الشمس أي عندما يصير ظل الشيء مثله أو مثليه (على اختلاف بين الفقهاء). وصلاة العصر تبدأ بعد صلاة الظهر مباشرة، ثم المغرب عند سقوط قرص الشمس، والعشاء عند غياب الشفق الأبيض. وبالتالي، فإننا محددون بشيء مرتبط بالشمس في الصلاة، وبناء على هذا، إذا كان النهار قصيرا تقاربت أوقات الصلاة، وإذا كان النهار طويلا تباعدت أوقاتها. ولكل بلد مواقيته، أما إذا كان اليوم كله نهارا أو كله ليلا، فيتم الاعتماد على مواقيت الدول الأقرب كما في الصيام.

* بعد رمضان يأتي عيد الفطر، وبعد وقفة عرفة يأتي عيد الأضحى، كيف تم تحديد عيد الفطر بثلاثة أيام، وعيد الأضحى بأربعة أيام؟

ـ عيد الفطر يوم واحد فقط، وعيد الأضحى يوم واحد فقط. أما التحديد والتمديد فهو عرف اجتماعي، أوجدته دولنا العربية والإسلامية. عيد الأضحى وهو يوم النحر اليوم الأول من أيام العيد، أي اليوم العاشر من ذي الحجة. وبعده تأتي ثلاثة أيام نسميها (التشريق)، وأكثر العلماء لا يجعلون العيد إلا اليوم الأول فقط، الذي يحرم فيه الصوم، لكن بعض علمائنا قالوا إن أيام التشريق أيضاً لا يمكن فيها الصيام أو لا يجوز، وهذا القول ضعيف، لقوله سبحانه وتعالى: «فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة».. إذن فالمحرم قطعاً الصيام فيه، باتفاق الأمة، هو اليوم الأول (يوم النحر)، كذلك يوم الفطر، الذي يفرح فيه المسلمون بإتمامهم ثاني عبادة بعد الصلاة.