في العراق هناك طبعاً قائد أوحد، صوره معلّقة على ناصية الشوارع وفي الأزقة وعلى أبواب الدوائر الرسمية، ولكن الجميع لا يمكنه تجاهل اسم علي حسن المجيد الذي كان انتماؤه للحلقة الأضيق المحيطة بالرئيس العراقي وتوليه مسؤولية القيام بمهام البطش سبباً في توطيد مكانته في هرمية الحكم وتوسيع شهرته على نطاق واسع.
يعتبره البعض «ماكينة جهنمية» لا هدف له سوى تجسيد الولاء للحكم من دون أن يأبه إلى مبدأ أو قانون أو شريعة، والبعض الآخر ينظر إليه باعتباره إفرازاً طبيعياً للنظام. والحقيقة إنه الاثنان معاً وأكثر. إنه بالأحرى «رانكو ميلاديتش» العراقي.
بحكم بطشه يعرف كيف يدفع بالتحدي إلى بعيد، متجنباً عن عمد كل ما يمتّ إلى التروي والحكمة بصلة، حتى لو كان ذلك تحت طائلة إشعال حرب أهلية. وقد وفّر له النظام حقلاً مثالياً لممارسة هذا السلوك.
ولد علي حسن المجيد، 46 عاماً، في بلدة تكريت الواقعة إلى الشمال من بغداد. وفي الحقيقة ليس من باب الشطط القول إن الشاب الذي غدا رجلاً، لم يشذ عن معظم أقرانه الآخرين في الانخراط سريعاً في صفوف الجيش هرباً من شظف العيش ومن غياب أي فرص حقيقية لكسب قوته خارجه.
لم يكن للمجيد أي دور سياسي يذكر قبل انقلاب يوليو (تموز) 1968، وكان تدرجه في السلك العسكري يتماشى مع بيروقراطية صارمة فبلغ رتبة ضابط صف مغمور. ولكنه امتشق سيفا بيد مشبوكة بأكثر العصبيات بعداً عن المؤسسة العسكرية.
من هنا لا يخطئ من يؤكد أن السلطة في العراق شهدت، بعد العام 1968، ميلاً واضحاً نحو التماثل في تركيبتها المعتمدة على الروابط العائلية والجهوية، على الرغم من استمرار الخطب الايديولوجية لحزب البعث. هذا الميل هو ما يمكن وصفه بالجنوح نحو الفئوية، بمعنى سيطرة مجموعة تربطها عرى القرابة والمصدر الجغرافي على الدولة والمجتمع في آن، من خلال تأكيد عصبية فعلية لم تتمكن ايديولوجيا حزب البعث المعلنة من إخفائها عن عين الناظر إلا قليلاً. بل يمكن المضي إلى حد أبعد من ذلك وترديد مقولة حنا بطاطو: «إن التكارتة يحكمون بواسطة حزب البعث أكثر مما يمكن القول إن حزب البعث يحكم بواسطة التكارتة».
وبما أن علي حسن المجيد هو ابن عم الرئيس العراقي وينتميان معاً إلى مسقط رأس واحد، فقد جرت ترقيته على حين غرة إلى مرتبة لواء وتسنم فوق ذلك كله مناصب أمنية أخرى. ولا يصح القول البتة إن الارتباط العائلي هذا لم يلعب دوراً حاسماً في هذا الاصطفاء، بل على العكس تماماً أن هذا الارتباط كان مشدوداً دائماً بعرى وثيقة مؤداها أن سقوط نظام الحكم في بغداد يحمل في طياته، ولو ضمنياً، سقوط أفراد العائلة جميعاً، بمن فيهم علي حسن المجيد، وهكذا يصبح الولاء للحاكم ولاء للذات.
ومهما يكن من أمر، ففي العام 1983، كان علي حسن المجيد على موعد مع أهالي بلدة الدجيل التي زارها الرئيس العراقي في سياق جولة يقال أنه تعرض خلالها لمحاولة اغتيال. كان رد المجيد على أهالي البلدة عنيفاً حيث يشاع أنه فتك بالعديد من سكانها الأبرياء. بيد أن هذه التجربة لم تكن سوى بروفة أولية لممارساته القمعية اللاحقة.
وما أن تمّ تعيينه في مارس (آذار) 1987 أميناً لسر مكتب تنظيم الشمال لحزب البعث حتى تسارعت الأحداث واتخذت نسقاً مختلفاً. كان علي حسن المجيد بصفته هذه يتمتع بصلاحيات كاملة على جميع مؤسسات الدولة في المنطقة الكردية، بما في ذلك الفيلقان الأول والخامس من الجيش ودائرة الأمن العام والاستخبارات العسكرية. وبما أنه لا يعمل إلا على «الساخن» ولا يهنأ إلا بفتح مواسير الدم، فقد لجأ إلى اتباع سياسة تطهيرعرقي لم يستطع حتى الجنرال الصربي البوسني ميلاديتش مجاراته فيها. ففي الفترة ما بين يونيو (حزيران) 1987 وأبريل (نيسان) 1989، قاد عمليات إبادة جماعية باتت معروفة على نطاق واسع باسم عمليات «الأنفال»، استهدفت، بالدرجة الأساس، مواطني المنطقة من الأكراد.
وفي 20 يونيو 1987 أصدر أوامر لقادة الجيش بأن «يقوموا بعمليات قصف عشوائية لقتل أكبر عدد ممكن من الأشخاص الموجودين في المناطق المحظورة». وقد أسفرت هذه العمليات عن قتل أو «اختفاء» نحو 182 ألف مواطن كردي. ولم يتوان عن استخدام الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين في العشرات من المواقع، بما فيها مدينة حلبجة التي راح ضحيتها نحو 5 آلاف نسمة، إضافة إلى التدمير شبه الكامل لممتلكات الأسر والتجمعات القروية التي بلغت نحو 2000 تجمع في معظم المناطق الكردية.
تلك المجازر العمياء التي ارتكبها علي حسن المجيد ضد مجموعات بعينها من المواطنين الأكراد استحق عليها لقب «علي الكيماوي». وتظهر وثائق المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، أن أعمال القتل الجماعي وحالات «الاختفاء» والتهجير القسري التي نفذت بحق المواطنين الأكراد الآمنين، كانت تخضع بصورة مباشرة لأوامر صادرة من علي حسن المجيد شخصياً.
هكذا اتسع نفوذه اتساعاً مرموقاً في هرمية الحكم، فتولى منصب الحاكم العسكري للكويت بعد احتلال بلاده للدولة الجارة في أغسطس (آب) 1990، وحصر اهتمامه الأساسي في ممارسة أعمال قمع وحشية، وهو ما تباهى به حين أشار بصورة لا تخلو من التهكم بأنه «أخطأ أقل ما يمكن».
في العام 1991، تسلم حقيبة وزارة الداخلية، فيما كانت المناطق الشيعية الجنوبية في حالة غليان وتمرد. وبات عليه مهمة «إعادة الهدوء وحفظ النظام» في هذه المناطق. كان الخط الحقيقي الذي تمسك به علي حسن المجيد هو خط تصعيد القمع: اعتقال الآلاف، إعدام الكثيرين، وأهم من ذلك كله الحد من إمكان زيارة العتبات المقدسة إلى النجف وكربلاء، ووضع يده على عائدات المؤسسات الدينية.
تقلّد علي حسن المجيد في الأعوام 1991 ـ 1995 وزارة الدفاع، وترقى إلى رتبة فريق أول ركن. وعلى الرغم من أن «تبعيث» المؤسسة العسكرية العراقية أدى إلى تقليل محسوس لإمكانات انقلاب على السلطة القائمة، إلا أن حركة إعدامات لضباط كبار حصلت أكثر من مرة خلال فترة توليه هذا الموقع، ولو أنه يظل من الصعب تحليل أسبابها الحقيقية.
في العام 1995، قاربت هرمية الحكم إلى التضعضع بعد هروب صهري الرئيس صدام حسين، حسين كامل وشقيقه صدام كامل، من العراق ولجوئهما إلى الأردن. وكانت هذه الحادثة نذير شؤم بالنسبة لعلي حسن المجيد الذي تربطه بهما علاقة قرابة (عمهما) قد تفسّر سلباً في ضوء سوء الظن الذي يحكم سلوك الرئيس العراقي، فسادت في أوساط آل المجيد موجة من الذعر والذهول. لكن علي حسن المجيد سارع إلى استدراج الهاربين إلى البلاد، وقاد عملية الإجهاز عليهما لاحقاً فقتلهما مع والدهما (أخيه الشقيق) وأفراد آخرين من العائلة.
وما أن انتهت هذه العملية بنجاح حتى أسبغ عليه الرئيس العراقي مسؤولية تنظيمات محافظة تكريت ومسؤولية المكتب العمالي المركزي لحزب البعث، واصطفاه إلى جانبه كمستشار للشؤون الأمنية.
ولئن نظر علي حسن المجيد إلى دوره باعتباره مشروعاً لا يحقق نفسه إلا عبر العنف وحده، فلن يرتاح إلا ميتاً.
* أكاديمي من العراق مقيم في فيينا