باحثان سعوديان يوثقان لمجلة بغدادية

دراسة تاريخية لـ«لغة العرب» التي صدرت بداية القرن العشرين وترجمة لحياة صاحبها أنستاس الكرملي

TT

في يوليو (تموز) 1911، صدرت في بغداد واحدةٌ من أهم المجلات العربية، إن لم تكن الأهمَ على الإطلاق، بما حققته من سبقٍ وريادةٍ في طرح عددٍ من الأبحاث والدراسات القيّمة في مجالات: اللغة العربية، والجغرافيا، والتاريخ، والآثار.

وهذه المجلة هي «لغة العرب» التي أصدرها ورأس تحريرها، العالم اللغوي والأديب الأب أنستاس الكرملي، واستمرت بالصدور لمدة أربعة أعوام، ثم توقفتْ بسبب الحرب العالمية الأولى عام 1914، ثم استأنفَ الكرملي إصدارها عام 1926 حتى عام 1931.

ونظراً لما تمثله مباحثُ ودراسات مجلة «لغة العرب» من أهمية، فقد قام الباحثان أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري، والدكتور أمين سيدو، بإعداد دراسةٍ تاريخيةٍ قيّمة، وضبطٍ ببليوجرافي لكافة مواضيع وأعلام مجلة «لغة العرب» لتمكين الدارسين والباحثين من تسهيل عملية الاستفادة من دراسات وبحوث المجلة، التي وصفها الباحثان، بأنها مصدرٌ مهم، لجمهرة الباحثين والمختصين.

الدراسة التي صدرت مؤخراً ، انتهج الباحثان فيها سبيلين; الأول: التكشيف الموضوعي الألفبائي بكل بحثٍ نشرته المجلة، ويأتي هذا الجهدُ إتماماً للمجهود الذي قدّمه رئيس تحريرها الكرملي، الذي ختم أعداد كل سنةٍ بفهارسَ فنية. إلا أنّ ما قدمه الباحثان، لم يكن تكراراً لجهد أنستاس، بل هو عملٌ جديدٌ، لأهم ما يريده الباحث، وهو تكشيف الموضوعات تكشيفاً ألفبائياً، وحّد جميع سنوات المجلة في فهرسٍ واحد، كما انفرد الباحثان باستخراج فهرسٍ بالأعلام، من واقع الكشاف الموضوعي، ليسهُل على القارئ معرفة كل الموضوعات التي كتبها أيُ كاتبٍ في المجلة.

وتمثل السبيل الثاني بتحضير وإعداد مباحث من «لغة العرب» تكون في متناول القارئ، بعد أن أضاف الباحثان إليها زيادةَ تحقيقٍ وتعليق، على أن الباحثين، وهما يشهدان بالقيمة العلمية لما نشرته المجلة من مباحث، إستثنيا دراسات الصحافي النجدي سليمان بن صالح الدخيل، بحجة أن بحوثه لا ترقى إلى مستوى مباحث المجلة! وقد سبق لأحد الباحثَين، وهو أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري، أن ناقشَ بعض مباحث الدخيل في كتابه «مسائل من تاريخ الجزيرة العربية».

ولم يُغفل الباحثان، الترجمةَ لرئيس تحرير كتبة المجلة الأب أنستاس الكرملي ( 1843 ـ 1946 ) الذي عاش أكثر من مائةِ عام، وتميّز بعلمه اللغوي والأدبي، وإشرافه على كتب التراث. واستبدَّ بجهده العلمي البحثُ اللغويُ في معاني المفردات، وأصولها، واشتقاقها، وفلسفة اللغة وتاريخها، وكان يجيدُ إلى جانب العربية، الفرنسيةَ واليونانيةَ واللاتينيةَ مع شيءٍ من الإلمام في اللغات العبرية والآرامية، والفارسية والتركية وغيرها. وقد نشر الكرملي عِلمه بتأليف كتبٍ بعضها مطبوع وبعضها مخطوط، مع نشاطٍ منقطع النظير في كتابة البحوث والمقالات في دوريات مصر والشام، إضافةً إلى ما نشره في مجلته «لغة العرب». ويذكر الباحثان أن الكرملي، كان ينشر باسمه الصريح وأحيانا بأسماءٍ مستعارةٍ، مثل: ساتسنا، وأمكح، وكلدة، وفهر الجابري، ومستهل ومتطفل. وقد تُرجمت بعضُ بحوثه إلى اللغة الفرنسية والانجليزية والروسية والايطالية والتركية. وبعد وفاته (1946) وزِعت مكتبته الحافلة، على مكتبات المتحف العراقي، ومتحف الموصل، ودير الكرملين.

والقارئُ لمجلة «لغة العرب» يلحظُ أن هناك اهتماماً باللغة العامية من قبل رئيس تحريرها الكرملي، ولم يُغفل الباحث أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري، هذا الملحظ، إذ أشار إلى أن عناية الكرملي بالعامية، لغةً وأدباً، ليست عنايةً من باب الدراسات المحايدة للإفادة الأدبية والتاريخية والبيئية، والتعليل لنمو اللغة وانحلالها، بل هي ـ حسب رأي الباحث ـ تبن لرأيٍ استشراقيٍ يسوّغ العامية، ويرى أنها من مأثور أجدادنا الفصحاء.

أما المواد المحققة من «لغة العرب»، التي نشرها الباحثان، فهي عدد من المباحث الخاصة بجزيرة العرب، منها مبحث بعنوان «أخبار منثورة عن صقر الجزيرة» وقد تضمّن حديثاً عن «تقدم الحجاز» وهو للمؤرخ فلبي، الذي ذكر أن حج سنة 1927 كان حجاً مشهوداً، لم يسبق له مثيل في التاريخ، فقد توجه إلى الحجاز 130 ألف حاج لأداء الفريضة، وذهب كثيرون منهم بالسيارات إلى مكة والمدينة، وأشار إلى ظهور محطات الكهرباء ومصانع الثلج في مكة،ورأى أن تعميم اللاسلكي سيكونُ خطوةً أخرى في سبيل تحول ديار الحجاز واندفاعها في طريق المدنية الحديثة.

ولعل من أهم المباحث التي حققها الباحثان، مبحثاً بعنوان «الطريق من الاحساء إلى الرياض إلى مكة» وهي رحلة قام بها السيد داود السعدي، في عام 1872م (1288هـ). وجاء في تقريره أنه وصل إلى الرياض في 17 ذي القعدة، واجتمع إليه الأهالي، إلا الشيخ النجدي عبد اللطيف الوهابي (عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن) وأن الأمير محمداً الفيصل قدّم له ولرفاقه، وليمةً عظيمة، وفي يوم 27 من الشهر نفسه، كان في قرية الشعراء، آخر قرى نجد باتجاه الحجاز، وفي يوم 17 صفر، كانوا في نفود الزلفي، التي عدّها من بلاد القصيم! وفي آخر أيام صفر دخل ورفاقه الكويت.

كما نشر الباحثان في دراستهما، ترجمة العالم النجدي عثمان بن سند، المولود بنجد، سنة 1766 (1180هـ)، والذي كان مالكي المذهب متعصباً جداً، كما كان له باع طويل في اللغة، حتى قيل أنه كان يحفظ كتاب «القاموس» للفيروزآبادي، وله مؤلفات كثيرة منها «مطالع السعود في تاريخ داود» وهو كتاب يضم فوائد تاريخية جمة، لأنه يمثل للقارئ حالة العراقيين من بدوٍ وحضر، من حكومة عمر باشا، سنة 1774 إلى أحداث سنة 1826 وهي السنة التي توفي فيها عثمان بن سند.

إضافةً لذلك، نشر في الكتاب مبحثً بعنوان «توطئة عن نخل نجد وتمرها» ومبحث آخرر بعنوان «المنتفق ومشيختها» وهو نصٌ كتبه: توماس هوويل، أحد موظفي شركة الهند الشرقية، الذي زار البصرة في فبراير (شباط) 1788. وهناك مبحث مهم آخر بعنوان «نبذة عن تاريخ بغداد والبصرة في أوائل القرن التاسع عشر من الميلاد» وهو مبحث كتبهُ في مجلة «لغة العرب» يعقوب سركيس، وقد بدأ يؤرخ في مبحثه من عام 1810.

لقد احتوت أعداد مجلة «لغة العرب» على 121 مبحثاً خاصاً بجزيرة العرب، تاريخها وآثارها وآدابها وسكانها، حاضرةً وبادية. وقد وِفق الباحثان حينما وضعا فهرساً خاصاً بالبحوث والمقالات الخاصة بجزيرة العرب، ولعل من أهم تلك البحوث: الإرطاوية، إمارة الرشيد، بين عنزة والظفير، التحكيم بين العراق ونجد، تسليم الثوار النجديين، مدينة الجبيل، حكومة الأدارسة في عسير، ابن الرشيد في منفاه، ابن سعود في صحف أمريكية، ابن سعود والشيابين، سفير الحجاز ونجد في باريس، الشورى في الحجاز، قبيلة عتيبة، مبارك الصبح ومطير، مؤتمر الرياض، هجوم الإخوان على الكويت، واردات الإحساء والقطيف وعدد سكانهما، ولي عهد السلطان ابن سعود. ويُرجع الباحثان، سببَ اهتمام الكرملي بالجزيرة العربية، إلى أمرين: الأول، أن مجلة «لغة العرب» عراقية، والعراق وشيجة الصلة بالأحداث التاريخية في الجزيرة العربية آنذاك، كما أن العراق ذو ولاءٍ عثماني وحكام شمال الجزيرة يومئذٍ عثمانيو الولاء، أما السبب الثاني، فهو أن الصحافي النجدي سليمان الدخيل، صديق للكرملي، والكرملي يحسن الظن بأخباره ورواياته. وكان الدخيل، كان يصدر من العراق جريدتين، هما: الحياة والرياض، فكانت «لغة العرب» تنقل من الجريدتين أخبار الجزيرة العربية.