كيف ساهم المستشرقون في ظهور نظرية التبعية؟

بوحديبة شارل أفرغ الإسلام من عراقته وليفي برول كتب أكثر من عشرة مؤلفات من دون أن يزور أيا من المجتمعات التي تخصص في تحليلها!

TT

يقول عبد الوهاب بوحديبة انه إلى جانب ما أثارته الحضارة الإسلامية من اهتمام علمي واسع تبلور في قالب دراسات موضوعية ونزيهة، فإنها قد أثارت أيضا الحقد والغضب في عديد من الأوساط الغربية التي عمدت حسب خطة مدبرة محكمة إلى قلب الحقائق وتشويه الواقع، وإصدار شتى التهم وإلصاقها بمختلف جوانب أساليب عيشنا، وعناصر تفكيرنا. ويرى المفكر أنه ليس من باب الصدفة أن يكون هذا التشويه هو الذي راج وتغلغل في الأذهان وأن يكون ما كتب «علينا» أكثر شيوعا مما كتب «إلينا» إذ أن الأوساط الشعبية والرأي العام الغربي والمؤسسات العلمية نفسها وحتى تلك الأشد اتصالا بالعالم الإسلامي، أصبحت متأثرة بالأساطير والخرافات التي يتناقلها أصحاب الأراء المغرضة عن المجتمعات الإسلامية. ومن هذا المنطلق اعتبر بوحديبة أن أدب الاستشراق وفرقه وتنوعه وتعدد اللغات التي كتب بها، والاتجاهات التي سار على منوالها لا يزال في حاجة أكيدة إلى غربلة وتقويم، إذ أن الاستشراق فرق وتيارات مختلفة يرتدي جميعها ثوب الموضوعية والتجرد والدقة والنزاهة والعلم، لكنها تخفي حقيقتها إلى حد أن الكتابات الاستشراقية تعد اليوم عبارة عن خليط من المعلومات الصحيحة والأخطاء الفادحة.

ومن الكتب التابعة للمدونة الاستشراقية والتي طبعت لعدة مرات وترجمت إلى كثير من اللغات بما في ذلك اللغة العربية، ذكر بوحديبة كتاب جورج بوسكي عن «أخلاق الإسلام الجنسية» صدر في فرنسا سنة 1952 وهو كتاب كما يقدمه، تداوله القراء طيلة ثلث قرن ونشر تحت إشراف أكبر أساتذة الغرب ونقل إلى الإنجليزية والإسبانية والهولندية، وأصبح المدخل المفصل إن لم يكن الوحيد إلى قضية شائكة معقدة صعبة تتعلق بأخص خصائص المسلمين التي لا يمكن لأي أجنبي أن يطلع عليها إلا بالممارسة الطويلة والبحث المستفيض ألا وهي قضية «الحياة الجنسية».

إلا أن جورج بوسكي ادعى سعة الاطلاع والمعرفة مستغلا ما توصل إليه من دراسة لبعض أمهات كتب السلف العربي، فأصبح ينظر إليه وكأنه الخبير الاختصاصي العالمي للفقه الإسلامي، وأصبح كتاب «أخلاق الإسلام الجنسية» بمثابة المرجع الأصلي لعديد الاجتماعيين والسوسيولوجيين والسيكيولوجيين والديموغرافيين، لذلك فإننا لا نكاد نجد باحثا غربيا أو مسلما يتطرق إلى الخرافات الموجودة في الكتاب عن بطش المسلمين الجنسي، وعنفهم الشهواني وانسياقهم للذة.

ويرجع بوسكي كل ذلك إلى الفقه الإسلامي وتعاليمه، ويعلق بوحديبة على هذه التفاسير بقوله «فمن تحريف إلى تشويه، ومن تشويه إلى هزل، فتصبح الصورة المتداولة عن حضارتنا صورة كاريكاتورية شنيعة للغاية».

وفي سياق التأريخ للصور المشوهة التي التقطها المستشرقون للحياة الاجتماعية الإسلامية، عاد عبد الوهاب بوحديبة إلى دراسة تاريخ الفكر الفرنسي والأنجليزي والألماني في القرن التاسع عشر فلاحظ اقترانا واضحا بين الغرب في طور التوسع الاقتصادي والجغرافي، وظهور النظريات السوسيولوجية الجديدة، وهو تزامن ليس وليد الصدف، إنما هو حلقة من سلسلة طويلة تمتد جذورها إلى عهد النهضة الغربية لما دخلت أوروبا في مغامرة غزو القارات والاستيلاء على كل مكان وصفوه بأنه «خال من الحضارة»! وفي هذا الإطار التاريخي يسجل السوسيولوجي بوحديبة انبثاق نزعة عميقة الرسوخ في الأذهان منذ ذلك العهد إلى يومنا هذا، تقول بتفاضلية الثقافات والمجتمعات والأديان، وآلت في نهاية المطاف إلى نظرية «العقليات» التي سمحت بظهور خلاصة أخرى مفادها، أن الحضارة الغربية تمثل خلاصة التطور الكوني المطلق.

وفيما يتعلق بالعالم الإسلامي تحديدا، يقول بوحديبة ان الإشكال قد ازداد تعقيدا بعد أن اتضح أن الشعوب الإسلامية المغلوبة المهيمن عليها، لم تخضع ذهنيا وعقليا لسيطرة الغرب، بل اتجهت تبحث في ثقافتها ماضيا وحاضرا ومستقبلا، عن معلومات تستمد منها ما تستطيع من القوة لتجابه خطر الاحتلال ولتدافع عن هويتها وكيانها، فاتضح بالنسبة للغرب أن الإسلام لن يرضخ وأن المسلمين لن يستسلموا وأن الصراع الاستعماري بين الغرب والشرق، ليس في نهاية الأمر إلا طورا من أطوار الصراع القديم. ويضيف بوحديبة أن أخطر ما اتضح لهؤلاء الباحثين هو أن الإسلام سر المقاومة وأنه ما دام متأصلا في الشعوب الإسلامية، فلن يكتب الدوام للاستعمار الغربي.

من هنا استنتج صاحب الكتاب أن علم الاجتماع لم يكن إلا بابا من أهم أبواب العلوم الاستعمارية من حيث أهدافه إذ كان يخدم مصالح الامبراطورية الفرنسية أو البريطانية، ولا علاقة له بالعلم أو المعرفة الصحيحة ولا بمصالح الشعوب المستولي عليها. فالمختصون بأتم معنى الكلمة في علم الاجتماع كانوا أقلية ضئيلة ومعظم من كتبوا عن المجتمعات الإسلامية، كانوا إما موظفين إداريين أو ضباطا في الجيش البريطاني أو الفرنسي حيث «اكتشفوا» الإسلام أو جعلوا من البحث في شأنه هواية لاستغلال أوقات فراغهم فكانوا بمثابة جامعي المعلومات والوقائع والوثائق التي أساءوا تقديمها. ويضرب بوحديبة مثالا آخر من المستشرقين الذين تناولوا الإسلام دون أن تكون لهم علاقة معرفية أو ميدانية به وهو هنري ليفي برول صاحب نظرية العقلية البدائية والتي كتب فيها أكثر من عشرة مؤلفات ودرسها طيلة نصف قرن في جامعة السوربون، في حين أنه لم يزر أبدا ولو مجتمعا واحدا من بين المجتمعات التي تخصص في وصفها وتحليلها! وتبعا لهذه الطرائق في تحصيل المعرفة عن المجتمعات الإسلامية، سادت إشكالات صورية، كالتساؤل عن السر الذي جعل المجتمع الإسلامي لم يشهد ازدهار حياة مسرحية، أو من يتفنن في إبراز العلل التي لم تتكون من أجلها رأسمالية في الإسلام. ويعلق على اتباع منهج المقارنة بالواقع الغربي، بأنه المحك الذي يسهل الفهم على ضوئه، فيصبح هذا الواقع النموذجي الأوحد في مرجعية هؤلاء المستشرقين، وبذلك يصبح أي مجتمع غير منظم حسب النسق الغربي كأنه مبتور ومنقوص فيخيرون الحديث عن العشائر والعادات والمعتقدات والفولكلور، بدلا عن الحديث عن الشعوب الإسلامية والقيم الأخلاقية الإسلامية والإيمان الإسلامي والفن الإسلامي.

ويصف بوحديبة مثل هذا التمشي بقوله «إن محورة كل شيء، لا تتم إلا في نطاق مفاهيمهم الغربية! ولا يدل ذلك في حقيقة الأمر إلا على قصور في تجاوز الذات، والتفوق عليها والنظر إلى واقع الأشياء بكامل الموضوعية».

المثال الرئيسي الذي اعتمده بوحديبة لإقصاء أثر التشويهات والتحريفات التي طالت الحياة الاجتماعية الإسلامية في كتابات عديد المستشرقين، تمثل في كتاب «الروح الإسلامية» لريمون شارل. ويبرز الكتاب تفضيل هذا الكتاب عن غيره من الأمثلة الفاقدة للموضوعية، بأن صاحبه لعب دورا كبيرا في فرنسا نفسها، لإثارة الضغائن وبث السموم وكان يعد قطبا من أقطاب المختصين في معرفة أسرار الشريعة الإسلامية، وكان مستشارا للحكومة الفرنسية.

فما هي قضية كتاب «الروح الإسلامية»؟

يقول بوحديبة إن هذا الكتاب عبارة عن مختارات مما كتب ضد الإسلام والمسلمين عبر العصور، إلا أنه قدم في قالب تأليف منسق ذي طابع شيق خلاب وبأسلوب جميل يدعي العلمانية إضافة إلى أن الأستاذ «قويتي» كان قد أدرج هذا الكتاب في سلسلة «المكتبة الفلسفية العلمية» ويقول بوحديبة «إن التهم الثلاث الموجهة إلى الإسلام خلال صفحات الكتاب المذكور» هي : «الفقهية» و«التعصبية» و«القدرية»، وهي تأتي في سياق الحديث في كل مرحلة من مراحل العرض حتى تبدو وكأنها عادية في الإسلام، وجبلة في المسلمين عامة.

فحياة المسلمين اليومية في نظر «ريمون شارل» غير طبيعية، إذ انها تخضع دوما وبصفة لا مناص منها لمقاييس تعاليم الفقه التي ضبطها وجمدها في أدنى جزئياتها بحيث لم تبق - في رأيه - أية إمكانية للتصرف الحر فيها عند المسلمين، فهم يتصرفون في جميع أقوالهم وإحساساتهم وتصوراتهم حسب ما دونه الفقهاء وما قرره أئمة الفكر عندهم، فلا يتحركون إلا طبقا لهذه التعليمات التي تفننت في تقنين جميع أنواع السلوك البشري سواء أكان ذلك على المستوى الفردي أو الجماعي، أو كان ذلك على صعيد الفكر أو في مستوى التعايش الاجتماعي أو المعاملات الاقتصادية والعلاقات السياسية، فالفقه لم يبق كبيرة ولا صغيرة إلا قننها بمقولة أصبحت بمثابة الحاجز بين الإنسان المسلم وحياته، مما جعل الفقه سلبا للوجود، ونفيا للحرية وطمسا للبصيرة. وبناء على هذه التهم الثلاث، رأى السوسيولوجي بوحديبة أن ريمون شارل قد قدم الإسلام في قالب عملية، أفرغت الحياة الاجتماعية من كل حرية ومن كل ذاتية أو إرادية. فالتعاليم والمقاييس الفقهية تحاصر الإنسان المسلم من كل ناحية، فتنسج حوله شباكا تمنعه من كل تحرك خارج تلك التعليمات وتلك الأطراف، فيفقد إنسانيته ويتحول إلى آلة ميكانيكية تخضع لتوجيهات الفقهاء. وإلى هذه الفقهية يرجع الكتاب عدم قدرة المسلمين المزعومة على التقدم والتطور والاختراع والابتكار لأن الفقه بمثابة العقبة، أمام الفكر الحر الخلاق، وأمام تقبل المجتمع للتطور والإبداع والاكتشاف...

وهكذا فإنه يصبح من المستحيل على الفقيه أن يأخذ بعين الاعتبار متطلبات الحياة الاجتماعية والاقتصادية وخلاصة هذا الاستنتاج إصدار حكم في الثقافة الغربية مفاده أن الإسلام يجعل من الشريعة مصدر أخلاق الأمم الأوحد بينما الأخلاق في الغرب هي مصدر القوانين.

ويبين مفكرنا أيضا من خلال تحليله التفصيلي لكتاب ريمون شارل أن الفكرة الأساسية في كتابه تكمن في جعل المتلقي يتأكد من استحالة الفصل بين الدين والحياة في عقلية الإسلام وذهنية المسلمين، ويستدل بوحديبة بمقتطفات من الكتاب يقول فيه ريمون شارل: « حجر العثرة والمأساة يكمنان في العلاقة التي لا بد من استنباطها من جديد بين الشريعة المنزلة والشريعة الإنسانية» أي بعبارة أخرى فإن الحل الوحيد للمسلمين يكمن في التخلي النهائي عن الإسلام وفي الاقتداء بالغرب. وبما أن هذا صعب عليهم ولا يساير طبيعة «تعصبهم الأعمى» فإن المؤلف «ينصحهم»... بالبقاء على حالهم... «وهكذا يصدر ريمون شارل حكمه النهائي على المجتمعات الإسلامية بأنها ستظل إلى أمد بعيد تتخبط في متناقضات الفقه، وفي تضاربه مع واقع العالم العصري، وطبيعة العالم العصري، في نظره، أن تكون غربية أو ألا تكون.

ويكشف بوحديبة عن مرجع ريمون شارل في الحديث عن اللاتسامح الإسلامي هو كل من قوبينو وكلود ليفي شتراوس. فالأول وصفه صاحب الكتاب بأنه قطب النظريات العنصرية التي تبنتها النازية والفاشية والتي ما تزال مصدر التنمية عند بعض البيض، وخاصة في جنوب افريقيا. وقد كتب قوبينو في دراسته عن الأديان والفلسفات في آسيا الوسطى فقال « ليس هناك دين أقل اكتراثا بإيمان الناس كالإسلام» أما مرجع ريمون شارل الثاني، أي كلود ليفي شتراوس فهو والكلام لبوحديبة يجهل كل شيء عن الإسلام والمسلمين، إلا أن ذلك لم يمنعه في كتابه «أحزان مدارية» من أن يشن هجمات على الإسلام والمسلمين إذ يقول في كتابه أحزان مدارية الصادر بفرنسا عام 1955 ما يلي:

الإسلام دين يركز على عدم قدرته على ربط الصلات بالخارج، أكثر مما يرتكز على بداهة الوحي، وإذا قارنا بينه وبين الرفق الكوني عند البوذيين، أو إرادة الحوار عند المسيحيين فإن التعصب الإسلامي يكتسي صبغة غير واعية عند من يقترف هذه الجريمة، ذلك أن المسلمين لا يحاولون دائما جر الآخرين بأساليب عنيفة إلى مشاطرتهم حقائقهم، بل موقفهم أعمق من ذلك، إذ يستحيل عليهم أن يتحملوا وجود الغير كغير، ولم تبق لهم طريقة واحدة لحماية النفس من الشك والمذلة، وهي أن يعتبروا الآخرين عدما، فالمسلمون غير قادرين على أن يعتقدوا بإمكانية وجود إيمان يخالف إيمانهم أو سلوك فائق على سلوكهم وما الأخوة الإسلامية إلا نقض للغير بنفي الكفار، وأن يكون ذلك بالاعتراف الصريح، إذ أن الاعتراف الصريح بذلك النفي لو تم لأدى إلى الاعتراف ضمنيا بوجودهم. وبعد طول عرض لتفاصيل التشويه الذي شاب الحياة الاجتماعية الإسلامية في أعماقها، رد بوحديبة على مختلف الأخطاء المعرفية بالحجة المعرفية، وبعد فراغه من الردود التي تخللت التحريفات، انتقل إلى تقديم تفسيرات، تمكننا من فهم ما وراء عمليات التشويه الاستشراقية.

التفسير الأول، الذي قدمه بوحديبة هو أن تلك التحريفات لعبت دور الأرضية الخصبة لترويج إشاعة مفادها أن الإسلام، وقف حجر عثرة أمام النمو الاقتصادي والاجتماعي وبالتالي يصبح دور الاستعمار جليلا وشريفا إذا كان غرضه تنمية الإمكانات الاقتصادية خاصة إذا كان العرب لم يتمكنوا من إدراك أهميتها وهو ما يعني حسب تفسير السوسيولوجي بوحديبة أن الغاية الصريحة من هذه الدراسات الاستشراقية تكمن في إقامة الحجة على أن المسلمين غير مؤهلين، وأن الوصاية عليهم وحدها الكفيلة بالنهوض بهم.

وختم عبد الوهاب بوحديبة هذا الفصل الطويل مقارنة بالفصول الأخرى بقوله « إن الأطروحة الاستشراقية تنفي إذن نفسها بنفسها، والمسؤوليات في التصرف الاقتصادي يجب أن تعزى للهياكل وإلى دواليب الحكم وإلى الظروف التاريخية لا إلى الدين ذاته، لأن الإسلام أخذ مسؤولياته فأكد في أكثر من مرجع على قيمة الحضارة والعمل والاجتهاد».