تحول البحرين من إمارة إلى مملكة دستورية

عبد الهادي بوطالب

TT

أُعلن في الاسبوع الماضي عن عزم أمير البحرين الشيخ (الشاب) حمد بن عيسى آل خليفة على تحويل امارته الى مملكة دستورية ديمقراطية. وبذلك ستكون البحرين ثالثة ممالك الخليج بعد المملكة العربية السعودية وسلطنة عُمان.

وجاء هذا الاتجاه ضمن مشروع «ميثاق العمل الوطني» الذي اعدته لجنة وطنية عليا وقدمته الى «أمير البلاد المفدى» في حفل كبير زكى فيه الامير بنود الميثاق واعلن انه سيطرحه على استفتاء شعبي لاقراره، ليتلو ذلك ادخال تعديلات على الدستور بما يجعله يتضمن المقتضيات الجديدة التي نص عليها الميثاق.

لِنقُمْ بقراءة سريعة لبنود هذا الميثاق نتعرف بها على طبيعة التجربة الدستورية الجديدة التي ستدخلها عما قريب دولة البحرين. وفي البداية يلزم التنويه بما جاء في الميثاق من تنصيص صريح على الرغبة في تحديث الدولة ودَقْرَطة سلطاتها ومؤسساتها، وفي تقنينها لحقوق المواطنين وواجباتهم، وفي تكريسها بحكم القانون لحقوق الانسان كما هي متعارف عليها عالميا. وقد اهتم الميثاق بجميع فصوله السبعة بما يتطلبه مبدأ تحديث الدولة ويترتب عليه من التزامات في الميادين الاقتصادية والاجتماعية. فمملكة البحرين المقبلة تدعم وتنخرط في نظام حرية التجارة الدولية (العولمة)، وحرية انتقال رؤوس الاموال، والقوى العاملة، والاستثمارات، وتحترم المِلْكية الخاصة ولا تجيز المس بها الا عند اقتضاء الصالح العام ذلك مقابل التعويض. فالمِلْكية كما جاء في الفصل الثالث المعَنْوَن بـ«الاسس الاقتصادية للمجتمع «مصونة، ولكل شخص حرية التصرف في ممتلكاته في حدود القانون. ولا يجوز نزع الممتلكات الخاصة الا لاغراض المنفعة العامة، وفي الحدود وبالكيفية التي يبينها القانون. ويُشترَط ان يتم ذلك مقابل تعويض عادل».

وقد اضاف الميثاق الى مهمة اجهزة الامن المعتادة وجوب اضطلاعها بدعم التنمية الوطنية في مفهومها الشامل. وهذه المهمة الكبرى التي سيعهد بها الدستور المعدَّل الى الامن الوطني للبحرين ما زالت لم تدخل في اهتمامات عدد كبير من الدساتير. بينما اصبح معلوما اليوم ان الاقطار التي يعلو فيها جبروت الامن على حساب كرامة المواطنين تعرقل هي نفسها تنميتها الاقتصادية والاجتماعية والفكرية بخنقها لحريات التعبير والنشر والاعلام. فلا تنمية بدون امن اقتصادي اجتماعي فكري يحترم هذه الحريات وارادة المواطنين في ممارستها. وحتى الاستثمار الذي يقال عنه انه طائر مهاجر، لا تدوم اقامته الا في الاقطار المستقرة على القيم الديمقراطية التي توحي له بالثقة والاطمئنان.

وما اجمل ان نقرأ في هذا الميثاق في فصله السابع «ان اعظم الثروات التي تملكها البحرين هي المواطن البحريني ذاته.. ولذا فان دعم المواطن بالتدريب المستمر والتدريب التحويلي (اي اعادة تكوينه) من شأنه ان يدفع بخبرات ودماء متعددة في سوق العمل مما يسمح بتوفير مجال ارحب من فرص العمل لهذا الوطن». ان هذا التوجه الصحيح بهذا المعنى الى خريجي الجامعات الذين يعانون من البطالة في مجموعة من اقطار العالم المتخلف هو الخط الذي يجب الالتزام به نحو هذه الادمغة المشلولة عن المساهمة في تنمية مجتمعاتها، باعادة تكوينها ودمجها في التنمية، خصوصا وقد صرفت عليها دولها نفقات لتعليمها وتربيتها. ولا يجوز ان تكتفي بتهميشهم ـ وبالاحرى قمعهم ـ في الوقت الذي يجب فيه اهتمام الدولة بالتسارع الى استعادة بعض ما صرفت عليهم من نفقات لتربيتهم وتكوينهم.

وسيكون الدستور الذي سيقره شعب البحرين ـ بمقتضى ما جاء في الميثاق ـ في طليعة الدساتير التي تُدَسْتِر قوانين البيئة وحمايتها. اذ جاء في الميثاق النص على «وضع استراتيجية وطنية لحماية البيئة، واتخاذ جميع الاجراءات والتدابير التشريعية للحد من التلوث من مصادره المختلفة».

والعادة ان الدول تضع لهذه المقتضيات قوانين عادية، لكن البحرين ستُبدِع بادماج هذه المقتضيات في صلب الدستور. وهو ما يعطيها قوة قانونية اسمى، ويخضع تغييرها لاجراءات التعديلات الدستورية التي غالبا ما تكون معقَّدة او صلبة وغير سهلة التغيير.

في المجال السياسي يستوقفنا الميثاق عند مادة تحويل الامارة الى مَلَكية. وقد لا يبدو هذا مهما لان هذا التغيير شكلي كما هو متعارف عليه في الفقه الدستوري، لكن لهذا التغيير اهميته من حيث ان تعبير الملِك ـ بدلا من الامير ـ يعني الدخول في عهد تحديث المؤسسات. ان تعبير الامير قديم استعمل للدلالة على نظام الحكم الشخصي بدلا من تعبير الملِك الذي يعني اليوم حكما مؤسسا، خاصة اذا اضيف الى الملكية نعت الدستورية.

ولا شيء في الميثاق يُلوِّح الى ان لقب الامير سيتخلى عن مكانه الى وصف الملك لان الفصل الثاني المعنون بـ«نظام الحكم» انما تحدث عن الامير، ولكنه اضاف تحت عنوان «الامير» ان نظام الحكم في دولة البحرين ملكي وراثي دستوري. ثم زاد يقول: «والامير هو رأس الدولة، وذاته مصونة لا تُمس». وهو ما تنص عليه الدساتير بحق الملك.

فهل يعني هذا ان امارة البحرين ستصبح مملكة على رأسها امير؟

قد يكون ذلك هو الارجح للابقاء على مرجعية «الامير» التاريخية الذي كان لقب حاكم البحرين من آل خليفة سنة 1783م والى اليوم، مرورا بعهد الاستقلال الذي تم رسميا في عهد امير دولة البحرين الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة في اغسطس (آب) سنة 1971م.

وهذا ما تم ايضا في سلطنة عُمان التي فضلت اسم السلطان على الملك اعتمادا على مرجعية السلطنة التاريخية وحمل فيها السلطان لقب صاحب العظمة او عظمة السلطان بدلا من صاحب الجلالة الملك. ويأتي قريبا من ذلك احتفاظ العربية السعودية باسم المملكة بدون صاحب الجلالة الذي عُوَّض في عهد الملك فهد بلقب خادم الحرمين الشريفين.

بصرف النظر عن هذه الالقاب التي تُعتبر في القانون الدستوري أشكالا للحكم، فان ملكية البحرين ستكون ملكية وراثية. وهذا شأن معتاد في الملكيات، لكنها ملكية دستورية مما يعني ان هذه الملكية تدخل في عهد الحكم المؤسس الذي ينظم فيه الدستور اختصاصات المؤسسات الدستورية وعلاقات بعضها مع بعض، ويقيم بينها الحواجز حتى لا يعتريها التداخل، ويجعل الشعب او الامة مصدر السلطات ويُختار فيها الحاكمون بالاقتراع العام. وفي ذلك يقول الميثاق في الفصل الثاني «نظام الحكم»: «نظام الحكم في دولة البحرين ديمقراطي. السيادة فيه للشعب مصدر السلطات جميعا». ويضيف في «باب مبدأ الفصل بين السلطات»: «يعتمد نظام الحكم ـ تكريسا للمبدأ الديمقراطي المستقر ـ على الفصل بين السلطات الثلاث التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، مع التعاون بين هذه السلطات وفق احكام الدستور. ويأتي صاحب السمو امير البلاد على رأس السلطات الثلاث».

واذا كانت الملكية المزمَع اعلانها في البحرين دستورية فانها لن تكون برلمانية وهذا ما يضعف من ديمقراطيتها. فالوزراء مسؤولون امام الامير وحده وهو الذي يُعَيِّنهم ويُعفيهم. والمجلس التشريعي لا يسائلهم ولا يسقط الحكومة.

وقد اخذ الميثاق بثنائية المجلس عندما نص على «ان تكون السلطة التشريعية من مجلسين: احدهما منتخب انتخابا حرا مباشرا، والآخر معين يضم اصحاب الخبرة والاختصاص للاستعانة بآرائهم في ما تتطلبه الشورى من علم وتجربة»، في حين ان ثنائية المجلس لا تفرض نفسها في البحرين، لان الغرفة العليا ليست لها مرجعية تاريخية كما هو عليه الحال في انجلترا، ولان الاقتصار على مجلس واحد يوفر للنظام تعاقب النصوص بما لا يفيد ويعقد سير عمل المجلس التشريعي.

واخيرا فان الدستور البحريني المقبل جاء يسوي بين الرجال والنساء في الاقتراع والمشاركة وفرص العمل. وهذه نقلة نوعية لها آثارها وعواقبها المحمودة.