على خلفية أحداث العنف المتتابعة.. إعادة الاعتبار لخطاب الوسطية الإسلامية

الأحداث كشفت كم نحن «شوفينيون» تحركنا المصالح الذاتية والحزبية بمستوياتها وصورها المتعددة

TT

حين تعصف بالأمة رياح عاتية من المِحنَ (الفِتَن) التي تنقلب معها الحقائق رأساً على عقب فانه يخيّل الى ذوي الأفق المحدود ان تلك نهاية التاريخ، وآخر فصول الحياة الدنيا. وغاب عن بالهم ان الفترات التي تُبرِز الاحداث الجلل لا تمثِّل سوى مرحلة من مراحل التاريخ وفقاً لسنة الله القاضية بالتدافع:

«ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض» ـ «البقرة» 251.

أما العاقبة في نهاية المطاف فإنها للمتقين الصالحين: ذلك لأن أمة الاسلام هي أمة الشهود الحضاري الوسطية:

«وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً» «البقرة» 143.

لقد مرَّت بالأمة أحداث كبيرة في العقود السابقة، غير ان أحداث السنتين الاخيرتين بدءاً بما اصطلح على تسميته بأحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) ومروراً بسقوط كابل وبغداد وانتهاء بتفجيرات الرياض الأولى والدار البيضاء وما تلاهما من أحداث عنف بأشكالها المتعددة بما في ذلك تفجيرات الرياض الثانية في مجمع المحيا السكني أحدثت مواقف غاية في الاضطراب وربما المراجعة المتأخرة من قبل بعض من يفترض انهم يمثلون مرجعية للمسلم المعاصر في ظروف عصيبة كهذه.

فلعلنا لا نزال نتذكر جماعة محدودة من المنتسبين الى العلم الشرعي والدعوة السلفية في غير ما قطر ولا سيما بلاد الحرمين كيف خرجت علينا اثر أحداث الحادي عشر من سبتمبر بالتأييد المطلق لما جرى هناك من قتل لأبرياء مسلمين وغير مسلمين تحت ذرائع شتى يعوزها جميعاً السند العلمي القوىم. وصحيح ان هذه الفئة ظلت شاذة بآرائها رغم ارتفاع صوتها ولما توقِعُه النصوص من تأثير في نفوس العامة من الناس، بل بعض المنتسبين الى العلم الشرعي لكنها لم تلق رداً علمياً من جمهور علماء العصر على النحو الذي آلت اليه الامور بعد ان وقع الفأس على الرأس في بعض البلدان الاسلامية ومنها بلاد الحرمين، فاذا بالجميع تقريباً يتسابق ليعلن موقف براءة مما حدث من أعمال عنف وتخريب، وليسجل بالمقابل موقف ادانة بأفصح لسان، وابلغ عبارة، بعد ان لاذ بالصمت او ما يشبهه طيلة الفترة السابقة التي أعقبت أحداث واشنطن ونيويورك وكأنه الى موقف التأييد أقرب، رغم ان ما جرى في الولايات المتحدة يمثل الاساس لهذه الاحداث الجزئية ـ على خطورتها ـ في هذا القطر او ذاك. ولعلَّ المتابعين للمشهد الثقافي والسياسي في بلاد الحرمين ما برحوا يتذكرون حجم الحملة الظالمة التي تزعمها نفر من دعاة السلفية هناك، حين حملوا على شيوخ لهم وزملاء كانوا بالامس القريب معهم حيث اصدر اولئك الشيوخ والزملاء بياناً متفاعلاً بقوة مع بيان تحريضي لستين من المثقفين الأميركيين، كان قد أطلق عليه هؤلاء الاخيرون عنوان «على أي اساس نقاتل؟»، فرد عليهم ثلة من علماء ومفكرين ومثقفين وكتاب من العربية السعودية ببيان حضاري مناقض عنوانه «على أي اساس نتعايش؟». لكن اولئك المتزعمين لحملة التسويغ لأحداث الحادي عشر من سبتمبر اصدروا جملة بيانات، بل بعض الرسائل والكتب التي تحمل تضليلاً قريباً من التكفير أحياناً لأصحاب بيان «على أي أساس نتعايش؟» فحرَّموا قراءة البيان ونشره وتداوله لأنه ضدّ التوحيد ويحمل منافاة صريحة لعقيدة الولاء والبراء، القاضية بإعلان الحرب على كل مخالف لنا في العقيدة حتى وان كان مسالماً غير حربي (راجع ناصر بن حمد الفهد، طليعة التنكيل بما في بيان المثقفين من الاباطيل، ص 11 ـ 2، عبر موقع «السلفيون» على الانترنت) ولسنا ندري كيف سيكون التنكيل ذاته؟! لقد اضطر بعض الموقعين على بيان المثقفين السعوديين ـ كما عرف واشتهر بهذا الوصف ـ باعلان تراجعهم تحت وطأة الحرب النفسية «الارهابية» التي تعرضوا لها واعلنوا مواقف مناقضة بعد ذلك تحاشياً لا تهامهم بالانهزام النفسي والوقوع في دائرة الفكر الدفاعي.. الخ، فراحوا يؤيدون القلَّة من ذوي الصوت العالي المدعومين بسياسة الارهاب الأميركية في أفغانستان وفلسطين وسواهما في ذلك الحين. واليوم ينضم بعض اولئك النفر انفسهم الى قائمة علماء الأمة، واذا بهم يعلنون ان تجربة السجن لمدة بضعة اشهر فقط أتاحت لهم فرصة مراجعة جذرية جادة لم تعلمهم إياها الكتب»! (راجع تسجيل الحوار المثير الذي اجراه الشيخ عائض القرني مع الشيخ ناصر بن حمد الفهد في القناة السعودية الأولى يوم 27/11/1424 هـ الموافق 22/11/2003 م).

مع انهم عيّروا من تزعموا البيان آنف الذكر بالانهزام لمجرد بقائهم في السجن بضع سنين، بل رد ما نصه:

«ومن العجيب ان من الكفار من سجن لأجل مبادئه ما يقرب من الثلاثين عاما، فلم يتزحزح ـ على كفره ـ عنها حتى خرج، بينما تجد من «الدعاة» من سجن بضع سنين فانقلب رأسا على عقب من «حتمية المواجهة» الى «حتمية الحوار» ومن«صناعة الموت» الى «صناعة العيش» او «التعايش» ومن «لماذا يخافون الاسلام» الى «لماذا يحارب الارهابيون الكفار»، هذا وهم في «سجن» يأتيهم فيها بكرة وعشيا، فكيف لو كانوا محاصرين في «كهوف أفغانستان» او «جبال كشمير» او «غابات الشيشان» او «مخيمات جنين»؟! ماذا تراهم سيصنعون؟! (ناصر الفهد، طليعة التنكيل، المرجع السابق، ص7 ـ 8).

اجل مرَّة اخرى ان ذلك الصوت الاقرب الى التكفير لم يكن ليمثل جمهور علماء العصر ولا بعضهم ولكن العتاب متوجِّه هنا نحو فقه التربيت على الاخطاءليس في السعودية وحدها ولكن في غير ما قطر، كذلك حتى لا ينفض الجمهور من الاتباع والرعاع من حولهم. وحين لم يصحُ هؤلاء الا على اصوات طلقات رصاص سياسية غادرة، او تفجيرات قنابل والغام مدمرة في هذا القطر او ذاك أيا ما بلغت خطورتها على اوضاعهم واوضاع مجتمعاتهم وأمنها فانها لا تقارن بخطورة أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي مثلت الشرارة الأولى للانطلاق المنظم المشروع لأعمال التخريب وقتل الابرياء في هذا البلد او ذاك، حينها فقط ادركوا ان السكوت على الانحراف تحت أي مسوِّغ وتعليل لا يمكن ان يكون حلاَّ او مخرجاً لأن الأذى طالهم او كاد هذه المرة.

لَمْ يحُرِّك سقوط دولتين هما أفغانستان والعراق ومجازر فلسطين التي تضاعفت في غيبة الرأي العام الاسلامي والعالمي نتيجة الاحداث الجديدة، ناهيك مما اصاب المسلمين في الولايات المتحدة والغرب عموماً، بل البلدان العربية والاسلامية تبعاً لذلك من ايذاء وتضييق على مختلف الصُعّد، لم يحرك ذلك كله بعض أولئك العلماء الأفاضل فيقدِّموا موقفهم صريحاً واضحاً على النحو الذي حصل بعد أن وقع قدر من نتائج أحداث الحادي عشر من سبتمبر في بلدان بعضهم ـ وكأنها مركز الكون ـ فتحولوا الى صوت جماعي هادر يعلن في وضوح ضرورة الاستمساك برأي جمهور العلماء حول فقه الجهاد القتالي وانه لا يعلن الا حين تستباح بيضة الاسلام، او يعلن العدو حربه علينا او يتجهز لذلك ..الخ .بل لقد سمعنا بعض اولئك المراجعين يعلنون في صراحة ووضوح انهم لم يكونوا يتصورون ان الامور ستؤول إلى ما آلت اليه في بلادهم، واذا بخطاب الوسطية الاسلامية الذي كان مستهجناً بالامس القريب لدى عدد غير قليل من المنتسبين الى العلم الشرعي والدعوة السلفية بخاصة هو الذي يسارع اليوم الى تبنيه والتباهي به، بعد ان كان قبل ذلك من قبيل الانهزام النفسي والفكر الدفاعي وعصرنة الاسلام.. الخ.

يقف شعري اندهاشاً وحيرة وسروراً في الوقت ذاته حين أقلب الاقنية الفضائية التابعة لعدد من الدول العربية، سيما تلك التي وقع في بلدانها قدر من أعمال العنف والتخريب اخيرا، فأجد ان محاور الحديث ومفردات النقاش تتركز حول:

ـ فقه الجهاد وضوابطه وشرائطه ورأي جمهور الفقهاء في ذلك، وانه لا يعلن الا لدرء الحرابة وقمع الفتنة... لا لفرض الاسلام والقضاء على الكفر.

ـ الاصل في علاقة السلم بغيره هو المسلم، اما الحرب فحالة طارئة.

ـ علاقة المسلم بغيره في دار الاسلام او الحرب او العهد.

ـ حقوق غير المسلم في المجتمع الاسلامي.

ـ الانصاف في التعامل مع غير المسلمين وانهم ليسوا سواء، وان اقربهم مودة للذين آمنوا النصارى..

ـ نحن لا نقاتل اليهود لأنهم يعتنقون ديانة غير اسلامية بل لأنهم محتلون مقاتلون.

ـ مفهوم الجزية وانها معللة بالحماية، فهي تدور مع علتها وجوداًَ وعدماً.

ـ الدعوة الى الاخوة الاسلامية الجامعة للسنة والشيعة ولكل مسلم موحِّد.

ـ تصحيح الفهم السائد حول حديث لا يجتمع دينان في جزيرة العرب وما في حكمه وانه يعني اجتماع سلطتين متنازعتين على نحو من الندية والاشتراك.

وليس من قبيل الغرور ولا المناكفة او تسجيل مواقف النجاح، او الشماتة ـ معاذ الله ـ التذكير هنا بالظلم والعنت والمكابرة بل التكفير الحقيقي حيناً والضمني حيناً آخر الذي لاقاه تيار الوسطية الاسلامية ورائدها فضيلة الامام يوسف القرضاوي فلتقر عينه الآن وليقض ما تبقى من عمره ـ أمد الله فيه ـ أو ليغادر هذه الفانية مطمئناً، وقد شاهد في حياته ثمرة جهاده وبلائه وما لاقاه في سبيل ذلك من ايذاء واتهامات شتى من قبل دعاة الغلو باسم الجهاد والسلفية التقليدية بعامة التي ان لم تشترك في موجة الاتهام والإيذاء المباشر له ولمدرسته، فقد شايعت ذلك وباركته بصمتها وكأنه رضى حقيقي بما تلوكه ألسنة الغلو والبهتان، او تخطه اقلامهم، مع ما نعلمه من ضرورة نصرة الأخ المسلم ـ فكيف اذا كان اماماً في الدين ـ ظالماً أو مظلوماً، أم ان لحوم العلماء مسمومة حين يفاخرون بالتقليد، ويشايعون الجهل والتخلف فقط.

لقد كانت الوسطية الاسلامية تصور على انها مدرسة ترمز الى التفلت من الاحكام الشرعية، وتقدم الرأي المجرد على النص المحكم، وتسعى لتقديم الاسلام متوائماً مع العصر، ولو على حساب احكام الاسلام وقيمه الثابتة، ومن ثم صدرت بحق هذه المدرسة ورموزها ـ ولا سيما الشيخ القرضاوي ـ أحكام بالحظر لكتبها حيناً سواءً بالمنع الفعلي أم بالتحريم من قراءتها واعتمادها مرجعاً في البحث والحكم، فضلاً عن الدروس والمحاضرات واللقاءات المتلفزة وغيرها، والغريب ان لا تجد الجماعة الاسلامية في مصر، حرجاً وهي تلك التي كانت تتبنى الكفاح المسلح تحت عنوان الجهاد بعد اقدامها الجريء على مراجعاتها الشهيرة، ان تعدّ كتب الإمام القرضاوي مرجعاً ثبتاً لتنقل منها النصوص المطولة في مفهوم الجهاد وضوابطه وتصحيح المفهومات المتعلقة بمسائل من هذا القبيل، هذا بعد ان ظلت ردحاً من الزمن تعد القرضاوي وفكره رجساً من عمل الشيطان بوصفه عالماً سلطاناً، متبعاً للهوى، أضله الله على علم. ولكن المراجعة الجريئة الدائمة لهذه الجماعة تغفر لها ذلك كله برحمة الله ومسامحة الدكتور القرضاوي، والحق أن هذا ما ينقص الآيبون الى الرشد وشيوخهم داخل السعودية أن يعلنوا انهم ظلموا الشيخ القرضاوي طويلا وما يزال بعضهم حتى ممن يتبرأ من الدعوة الى العنف اليوم مستمرا في ظلمه لأسباب غير مفهومة، وكأنه ينتظر مرسوما حكوميا يقضي بالكف عن ذلك، متناسيا الموقف غدا بين يدي الحكم العدل. لا نريد ان يتبادر الى ذهن أي منكم ان ثمة وقوعاً في دعوة حزبية جديدة شعارها الوسطية الاسلامية، كلا فهذه المدرسة تجمع ذوي الاعتدال ـ وهم السواد الأعظم من العاملين للاسلام من مختلف فصائل العمل الاسلامي وأطره، على غير تنسيق او اتفاق، فهي تجسَد وسطية هذا الدين واعتداله وسماحته، وعلماؤها هم الذين وصفهم الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم في حديثه الصحيح بقوله.

«يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين»…… صحح الحديث ابن عبد البر وأحمد بن حنبل وابن الوزير، (راجع محمد بن ابراهيم الوزير «العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم تحقيق شعيب الأرنؤوط»، 1412 هـ 1992 ـ ، ط الثانية، بيروت: مؤسسة الرسالة، حـ 1 ـ 312 ـ 308).

وحين يذَكر كاتب هذه السطور بمثل هذه الكلمات فلأنه يعتقد ان انصاف المظلوم لا يزعج سوى الظالم المكابر، أما المؤمن الحق فهين لين أواب الى الجادة، في غير غطرسة ولا استعلاء كما ان دافعه لمثل هذا التذكير هو خشيته ان صوت الاعتدال اليوم أمر فرضته مناسبات يخشى كل أحد ان يتهم بضلع فيها، فراح يعلن خطاب الاعتدال، لا ان ذلك نتاج تربية اعتدال طويلة الامد.

ومما يؤكد هذا المعنى ان بعض المشهود لهم بالاعتدال في الخطاب راحوا يدارون المتهمين بأحداث الحادي عشر من سبتمبر ومن أيدهم وتعاطف معهم، بكلمات لا تمثل حقيقة توجهاتهم وقناعاتهم، لكنهم كانوا كذلك حريصين على كسب الشارع وعدم انقضاض الجمهور الذي تملؤه العاطفة خاصة اثناءالعدوان الأميركي على أفغانستان، رغم عدم ايمانهم في أعماقهم بسلامة هذا المسلك وصوابه.

لقد اثبتت هذه الأحداث الأخيرة ومنها أحداث عنف في اليمن، والدار البيضاء، وتركيا، الى جانب تفجيرات الرياض الأولى والثانية وسواهما في مكة المكرمة وغيرها من مدن المملكة; كم نحن «شوفينيون»، تحركنا المصالح الذاتية والحزبية بمستوياتها وصورها المتعددة، ولكم نحن ساذجون غافلون، ذوو تربية خربة مدمرة في الوقت ذاته! والعظيم وحده من راجع المسار، ولم تأخذه العزة بالاثم او الخطأ، قبل ان يأتي يوم عاجل قريب نعض فيه أصابع الندم ولات حين مندم.

ان تسجيل ادانة مؤقتة او مطلقة على انحراف هذا المسلك او ذاك أمر مشروع، بل واجب، ولكنه سهل وميسور ويقدر عليه كل أحد، بيد ان الامر العسير حقاً هو مناقشة الاسباب والدوافع التي تؤدي الى أحداث العنف هذه في هذا القطر او ذاك، والحلول الناجعة للقضاء على تلك الاسباب والدوافع، والسعي بكل السبل الممكنة للتنشئة على التربية السليمة في اطار المجتمعات الاسلامية أولاً أيا ما بلغ الخلاف بين أفرادها.

أستاذ أصول التربية الإسلامية المساعد ـ جامعة صنعاء ـ اليمن [email protected]